كسارات ومرامل.. هكذا يأكل سياسيون بلبنان "أخضره "

فتح الإشكال الذي وقع الإثنين في إحدى المناطق اللبنانية بين سكان قرية عين دارة وعمال تابعين لأحد السياسيين الذي يملك كسارة في تلك المنطقة البقاعية، مجدداً ملف الكسارات والمرامل التي أكلت المساحة الأكبر من جباله وشطآنه.

فعلى مساحة هذا البلد الصغير، تنتشر فوضى المرامل والمقالع والكسارات في مختلف المناطق اللبنانية، وتمتد انيابها في اتّجاه مساحات شاسعة من الأحراج والأشجار الحرجية فتقضم آلاف الأطنان من التربة والصخور على اختلاف أنواعها.

فوضى متنقلة تخطّت الخطوط الحمر، وتحوّلت معها تلك القضية الى إشكالية تتأرجح بين براثن الفلتان المقنّع بتراخيص استنسابية علنية من جهة، والغطاء السياسي من جهة أخرى.

فمن يقف وراء هذه الفوضى؟ وكيف تتوزّع ملكيات مصانع الاسمنت والمقالع والكسارات بين السياسيين اللبنانيين؟

حماية سياسية

في لبنان ثلاث شركات تحتكر صناعة الاسمنت وتحظى بحماية من الدولة تجعلها أقوى من الرفض الأهلي وأقوى من المنطق الاقتصادي، وتتحكّم بأسعار السوق، مُستفيدةً من قرار صدر عام 1993 بمنع استيراد الإسمنت من دون إجازة مُسبقة من وزارة الصناعة، ومن فرض رسوم جمركية عالية عام 1985 تبلغ 75% على الاستيراد، مع رسم 10% على الاستهلاك الداخلي. كل ذلك تم من دون التفكير بالتبعات الاقتصادية والبيئية والصحية للصناعات.

مثلث الموت

"لافارج هولسيم"، "ترابة سبلين" و"شركة الترابة اللبنانية-اسمنت السبع" تحوّلت إلى "دولة" تتمدّد كيفما تشاء وتُحكم سيطرتها على المناطق التي تعمل فيها غير آبهة بالمجازر البيئية التي ترتكبها ولهيبة القانون والدولة وصحة الأهالي.

1-شركة الترابة اللبنانية-اسمنت السبع

في العام 1931 وعلى ساحل بلدات الهري وشكا وكفريا (شمال لبنان) تم إنشاء أوّل معمل لصناعة الإسمنت في لبنان: "شركة الترابة اللبنانية"، وأسسها المطران انطوان عريضة والبطريركية المارونية بالشراكة مع Société d’Entreprise et de Réseaux Electriques Paris في العام 1929. وبعد نحو عقدين على بدء أعمال "شركة الترابة اللبنانية"، تم إنشاء أيضاً على ساحل شكا معملاً آخر لصناعة الإسمنت، تابع لـ "شركة الترابة الوطنية" التي أسسها عائلات صحناوي وعسيلي وضومط. وتتألف من 12 شركة مساهمة لبنانية و53 فرداً.
في غياب أي ضوابط قانونية تردع نشاطها وإنتاجها، توّسعت أعمال شركتي الترابة بشكل كبير خلال سنوات الخمسينيات والستينيات، عبر عدد من الممارسات التي سمحت وأجازت بها الحكومة اللبنانية، وذلك تحت غطاء ودعم سياسي مستمر لا سيما في علاقة الشركتين بالبطريركية المارونية وبالقوى السياسية في زغرتا.

وقفة احتجاج على طريق شكا العام
2- شركة "سبلين"

يعدّ الزعيم الدرزي النائب السابق وليد جنبلاط من المساهمين الأساسيين فيها، حيث يرأس مجلس ادارتها ويملك ما يزيد على خمسة عشر في المئة من أسهمها.

وتتوزّع باقي الاسهم بين شركات تابعة لعائلة الحريري اشترت حصةً في المعمل (20%) والشركة البرتغالية (سيسيل) التي تمتلك أكثر من خمسين بالمائة من أسهم شركة الترابة، بعدما اشترت قبل عامين أسهمها هذه من حصة جنبلاط وشركات تابعة لعائلة الحريري.

وسُمّي معمل "سبلين" تيمناً بمنطقة سبلين التي اُنشئ فيها والواقعة في اقليم الخروب في جبل لبنان.
وشهدت المناطق المُحيطة بالمعمل سلسلة تحرّكات واحتجاجات رفضاً للسموم التي يلفظها المعمل والغبار الذي يتنشقوه قبل ان تقرر ادارة المعمل تركيب فلترات.

سبلين
"لافارج هولسيم"

تعتبر "هولسيم" (النسخة المحلية من "هولسيم" سويسرا) اقدم شركات الترابة في لبنان، تأسست باسم "شركة الترابة اللبنانية" (كان رئيس الجمهورية اللبناني كميل شمعون احد مؤسسيها). المُساهمون البارزون فيها هم: "سيمنت هولدينغ" اللبنانية، "هولسيبيل" البلجيكية، "بنك مصر لبنان"، البطريركية المارونية، وعدد من المساهمين الأفراد. في 2015، اندمجت "هولسيم" مع "لافارج"، لتتوسع في مجال الإسمنت.

نفوذ سياسي يمنع تطبيق القانون

فتح ملف اقفال الكسارات والمقالع منتصف التسعينات حين كانت الفوضى عارمة في هذا القطاع، الا ان الجهود الحكومية لتنفيذ مخطط توجيهي للمقالع والكسارات اصطدم بعقبات كثيرة تحت ذرائع عدة منها وجود أزمة بحص ورمال، الا ان السبب الرئيس الذي يحول دون وضع المخطط قيد التنفيذ وقوف سياسيين نافذين بقوة ضده لمصلحة متعهدين مقربين وأصحاب حظوة.
وعلى رغم أن لبنان حقق إنجازاً بيئياً عام 2002، حين أصدر مجلس الوزراء مرسوماً ينظّم عمل المقالع والمرامل والكسارات، الا انه بقي حبراً على ورق، اذ استمرت حالات التفلّت والتعدي على البيئة والصحة والسلامة العامة رغم كل التحرّكات الشعبية على الارض.

من يملك الكسارات؟

الى شركات الترابة والاسمنت، تمتد يد النفوذ السياسي الى الكسارات والمرامل التي تأكل الاخضر واليابس متنقّلة بين احراج وجبال المناطق اللبنانية كافة.

ففي حدث بعلبك وضهر البيدر في البقاع أكبر الكسارات للوزير السابق نقولا فتوّش وشقيقه بيار، وفي قب الياس للحزب السوري القومي، وفي كسروان في شننعير لآل الخازن(عائلة سياسية مارونية)، وفي الشمال في مزيارة وجوارها للوزير السابق سليمان فرنجية.

ولقّب كل من الوزيرين السبقين إيلي حبيقة (اغتيل عام 2003) وميشال المر (وزير داخلية سابق) بـ "ملوك الكسارات".

آل فتّوش...وقريب الأسد

تعد عائلة فتوش من مدينة زحلة في البقاع الوحيدة التي تملك منذ العام 1994 رخصاً للمقالع والكسارات، إذ تعمل باقي الكسارات وفقاً لمهلٍ إدارية تصدر عن وزارة الداخلية.

وإضافة إلى رخص الكسارات التي يشتكي أهالي البقاع من أنها غيّرت شكل سلسلة جبال لبنان الغربية، فإن آل فتوش يعدون شركاء "ذو الهمة شاليش"، وهو أحد أقرباء رئيس النظام السوري بشار الأسد، ومن المقربين منه، وعلى هذا الاساس فُتحت السوق السورية أمام مصنع الحديد الذي يملكه آل فتوش.

وفي العلاقة مع "حزب الله،" توجد علاقة تجارية بين آل فتوش وبعض رجال الأعمال الذي يُمثلون مصالح "حزب الله"، ويستدلون على ذلك بسهولة حصول آل فتوش على الرخص من وزارة الصناعة، التي تولاها في الحكومة السابقة الوزير حسين الحاج حسن ممثلاً حزب الله.

تقاسم "الجبنة"

في آخر مسح أجرته هيئة الأركان–شعبة المعلومات في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي (وزارة الداخلية والبلديات) في العام ٢٠١٣، تبيّن وجود نحو ١٤٧ محفار رمل، و١٨٩ مقلعاً وكسارة بحص، و٢١٩ مقلع حجر تزييني، موزعة على مختلف المحافظات، وتختلف فيها الأعمال بين جارية ومتوقفة، هذا دون الإشارة إلى أعمال شفط الرمول ضمن إطار تهذيب مجاري الانهر ومصباتها.

مصادرة الاملاك البحرية: وعلى قاعدة "الدولة غير موجودة"، تمتد يد السياسيين ايضاً الى الاملاك العامة البحرية حيث يقيمون مشاريع استثمارية خلافاً للقوانين وبما يتعارض مع حقوق اللبنانيين واللبنانيات عموما.

فعلى ساحل الشوف وعالية، حيث الواجهة البحرية لإقطاعية وليد جنبلاط وساحل بعبدا حيث تسيطر "حركة امل" و"حزب الله".

ورصد تقرير رسمي صادر عن وزارة الاشغال العامة والنقل في العام 2012 نحو 390 تعدّيا غير مرخّص على الشاطئ والبحر في محافظة جبل لبنان، إضافة الى 33 تعدّيا مرخّصا بموجب مراسيم (معظمها غير قانوني)، ما يجعل سواحل جبل لبنان الاكثر عرضّة للتعدّيات بسبب قربها من العاصمة وجاذبيتها وقدرتها الهائلة على توليد الثروات الريعية غير المشروعة، وتقدّر الوزارة مساحة كل التعدّيات في هذه المحافظة باكثر من مليونين و247 الفا و884 مترا مربعا، منها مليون و651 الفا و707 امتار مربعة من ردم البحر، تقوم عليها انشاءات بمساحة 162 الفا و383 مترا مربعا.

ولعل شركة "سوليدير" المثل الفاضح في هذا المجال، اذا استولت على ردم البحر قبالة وسط بيروت من منطقة ميناء الحصن وحتى المرفأ، وتقدّر هذه المساحة بنحو 870 الف متر مربع، كما هو حال "بيال" والمنشآت المحيطة به غير المرخصة اصلا، كذلك المرفأ السياحي الغربي (67 الف متر مربع) الذي حصلت «سوليدير» على حق استثماره لمدّة 50 عاما بمبلغ زهيد لا يتجاوز 2500 ليرة سنويا عن كل متر مربع، وهذا ينطبق على المرفأ السياحي الشرقي (الذي لم تنته الاعمال به بعد) الذي منحت الدولة حق استثماره الى شركة «سوليدير» بمبلغ اقل هو 2000 ليرة سنويا عن كل متر مربع ولمدة مماثلة! علما ان عقارات مهمّة جدّا من الاملاك العمومية المحاذية للمرفأ السياحي الغربي جرى نقل ملكيتها الى شركة Beirut WaterFront Development S.A.R.L التي قامت بتشييد ما سمّي «Zaitunay Bay»، وهو مشروع تتشارك فيه «سوليدير» مع شركة «ستو» التي يمتلك الوزير والنائب محمد الصفدي معظم اسهمها.

وفي ضبية، تملكت شركة «جوزف خوري» معظم هذه المساحة، واقامت مارينا سياحية ومنشآت مختلفة، وتنفّذ حاليا بشراكة مع مجموعة الفطيم الامارتية مشروعا سكنيا فاخرا تحت اسم «مدينة الواجهة البحرية» او «Waterfront City»...

عدم تحريج التشوّهات!

ويقول الناشط البيئي رجا نجيم لـ"العربية.نت" "ان لوزير البيئة صلاحيات مطلقة كي يوقف هذه الاعتداءات على املاك الدولة"، مستغرباً هذه "السرعة" التي يحصل فيها فتّوش على تراخيص للكسارات".

كما أسف "لأن تشوّهات المقالع والكسارات باتت غير قابلة للإصلاح وإعادة التأهيل"، وسأل "لماذا لا يتم الزام المستثمرين في هذه الكسارات والمقالع بإعادة تحريج المناطق التي يعملون فيها"؟

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى