عقب تعرضهم لأقسى إبادة جماعية في التاريخ على يد الأتراك، فر الأرمن إلى عدة دول منها مصر التي وصلوا إليها عبر البواخر والسفن اليونانية من خلال ميناءي الإسكندرية وبورسعيد، وهناك أقاموا في خيام لعدة سنوات قبل أن يندمجوا في نسيج المجتمع المصري ويصبحوا جزءا منه.
ويكشف الدكتور محمد رفعت الإمام أستاذ التاريخ المعاصر والحديث بكلية الآداب جامعة دمنهور في حديث مع " العربية.نت" تفاصيل هجرات الأرمن إلى مصر، مؤكدا أن أرمينيا ومصر وقعتا خلال فترات طويلة من التاريخ تحت حكم واحد مما سهل حركة الانتقال بين البلدين.
ويقول إن هجرة الأرمن إلى مصر بدأت خلال عصر الأسرات القديمة، ثم تزايدت خلال الحكم البيزنطي، والفتح الإسلامي والحكم العباسي، وعاشوا فترات ازدهار خلال الحكم الفاطمي، وتولى عدد منهم مناصب وزارية في الحكومات المتعاقبة، مشيرا إلى أنه خلال عهد محمد علي زاد عدد الأرمن في مصر نتيجة استعانة محمد علي بعدد كبير منهم في بناء الدولة المصرية.
ويضيف أن محمد علي يقترض أموالا من تاجر أرمني يدعى يعيازار أميرا بدروسيان لتجهيز حملات عسكرية قبل توليه حكم مصر وبدون ضمانات، وعقب توليه الحكم استدعى محمد علي التاجر الأرمني وولاه منصب كبير الصيارفة في مصر.
حرملك القصر
وفق ما يقول أستاذ التاريخ فقد زادت أعداد الأرمن في مصر خلال عهد محمد علي، خاصة بعد تولي عدد كبير منهم العمل في حرملك القصر، وزادت أكثر بعد تولي الأرمني بوغوص يوسفيان منصب ناظر التجارة حيث استدعى يوسفيان عددا كبيرا من الأسر الأرمنية وهي أسر يوسيفان ونوباريان وأبرويان وتشراكيان وحكيكيان، وتوغل الأرمن في الحياه السياسية والاقتصادية حتى تولى واحد منهم منصب رئيس وزراء مصر وهو نوبار باشا.
عقب مذابح الأتراك للأرمن في بدايات القرن العشرين بدأت الهجرات الأرمنية تتوالى على مصر لعدة أسباب، في مقدمتها وجود جالية أرمينية في مصر، وثانيها سهولة الوصول إلى مصر عبر السفن اليونانية مع صعوبة الوصول لدول أخرى، وساعدت فرنسا الأرمن في الهروب من المذابح. ويقول الدكتور رفعت إنه في صبيحة يوم 12 سبتمبر من العام 1915 بدأت عمليات نقل الأرمن من جبل موسى في بلادهم إلى بورسعيد في مصر، واستقروا في مخيم مجمع بورسعيد على الشاطئ الآسيوي لقناة السويس، حيث شملت عمليات النقل أسرا أرمينية من 6 قرى بمنطقة سيفيديا هي يوغون أولوك، وخضر بك، وهاجي حبيبلي، وبيتياس، وفاكيف، وكيبوسة، وبلغ عددهم نحو 4200 أرميني.
هجرة أرمينية جديدة
قامت الدولة المصرية بتوفير الإعاشة لسكان المخيم وانهالت التبرعات لمساعدة الأرمن من مصريين وأرمن يقيمون في مصر منذ عقود، فضلا عن مساعدات مطرانية الأرمن الأرثوذكس، ورويدا رويدا بدأ الأرمن يجدون طريقهم لمحافظات أخرى مثل الإسكندرية ودمياط والدقهلية والقاهرة، واتجه عدد قليل منهم إلى محافظات الصعيد، وعملوا في كل المجالات مثل التجارة والحياكة وخط سكك حديد بورسعيد برعاية الإنجليز. ويقول الدكتور رفعت إن عددا كبيرا من هؤلاء الأرمن سافروا من مصر مرة أخرى إلى بلادهم، وبلغ عددهم تقريبا نحو 6832، ومنهم من توجه لدول أخرى إلا أن موجات هجرة أرمينية جديدة وصلت لمصر في الفترة من العام 1923 وحتى العام 1927 بسبب ما عرف بالحروب الكمالية في الأناضول وقيلقية وتنازل فرنسا عن قيلقية للحكومة التركية.
ويكشف الدكتور رفعت تمركزات الأرمن في مصر وأعدادهم ويقول: إنه رغم تعسر العملية الإحصائية لهم وحصرهم فعليا إلا أن الرقم المتداول يتجه نحو 17 ألف أرميني حتى العام 1947، وتركزوا في القاهرة والإسكندرية والجيزة والشرقية والدقهلية ودمياط والغربية ومدن القناة والفيوم وبني سويف، واستأثرت القاهرة بالنصيب الأكبر بعدد بلغ 9171 أرمينيا، تلتها الإسكندرية بعدد بلغ 6764، كما تركزوا في مناطق معينة بالقاهرة هي عابدين والأزبكية وشبرا والوايلي والموسكي وباب الشعرية والجمالية والدرب الأحمر والسيدة زينب ومصر القديمة، أما في الإسكندرية فتركزوا في كرموز والمنشية واللبان والعطارين ومحرم بك والجمرك والرمل ومينا البصل، وانتشرت المدارس الخاصة بهم وكذلك الكنائس.
ويؤكد أستاذ التاريخ أن النشاطات الاقتصادية التي عمل فيها الأرمن بمصر تنوعت ما بين الطباعة والتجليد والصناعات المعدنية والميكانيكية والجلدية والغذائية والكيمائية، وانتشرت محلاتهم التجارية ومصانعهم مثل مصانع خوان هافان لصناعات المحابس والحنفيات ومصانع جبرييل للصناعات المعدنية بالإسكندرية، ومؤسسة نصيب توركوم لأعمال الزخرفة والمعارض ودور السينما بالقاهرة، وزوريان لصناعة الفضيات وهاجوب أجوبيان للهندسة الميكانيكية ومصانع ماجت للبطاريات الجافة وبول كيليدجيان لصناعة لافتات النيون والفلورسنت، فضلا عن عشرات مصانع الأحذية والمنتجات الجلدية وصناعة السجائر منها مصانع ماتوسيان وايبيكيان و جامسراجان، كما عملوا بالتجارة والفن وصناعة السينما فيما تخصص عدد قليل منهم في الطب والمحاماة والصيدلة وعمل بعضهم في البنوك.
الدكتور أرمين مظلوميان رئيس الهيئة الوطنية الأرمينية في مصر وهي هيئة مختصة بالشأن الأرميني والعلاقات المصرية الأرمينية، يؤكد في حديث مع "العربية.نت" أن عدد أفراد الجالية الأرمينية الحالي في مصر يبلغ نحو 7 آلاف أرميني.
وقال إن جده فر إلى مصر عقب مذابح الإبادة التركية في العام 1915، حيث فر لليونان أولا، وعمل هناك مع الاقتصادي اليوناني الشهير أوناسيس، ثم وصل إلى مدينة بورسعيد في مصر وعمل في مجال التصوير والفوتوغرافيا، وأسس مع ابن عمه استوديو ناصيبيان للأفلام، والذي تم من خلاله تصوير أفلام الفنانين الكبار أنور وجدي وليلى مراد ونادية لطفي، وتزوج سيدة فرت إلى مصر أيضا وأنجب أسرته التي استقرت وعملت في مصر.
وأضاف أن الأرمن الموجودين في مصر حاليا هم من الجيل الثالث وحصلوا على الجنسية المصرية، ويرتبطون بأرمينيا ارتباطا وثيقا ويعدون رحلات لها يشارك فيها طلاب المدارس، لتعريفهم بوطنهم الأم، مشيرا إلى أن عدد الجالية الأرمينية في الخمسينيات كان كبيرا وبلغ نحو 60 ألف أرمني، ولكن خرج الكثيرون منهم من مصر بسبب قرارات التأميم التي أصدرها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
وكشف الدكتور أرميان وهو طبيب متخصص في أمراض الجهاز الهضمي والكبد أن الأرمن المتواجدين في مصر حاليا يجيدون اللغة العربية إضافة إلى الأرمينية ويتحدثون فيما بينهم باللغة الأرمينية لكنهم يتحدثون مع الآخرين باللغة العربية، مؤكدا أن المدارس الخاصة بهم تعلم أطفالهم اللغتين معا.
وقال إن الأرمن في مصر حاليا يعملون في مجالات الصاغة والسياحة والطب والفن التشكيلي والتصوير والفوتوغرافيا، ومن مشاهيرهم الفنانات فيروز التي كانت بطلة سلسلة أفلام مع أنور وجدي، ونيللي ولبلبة والفنانة ليزا سركسيان الشهيرة بإيمان، والمصوران أنطو وفان ليو وارمان والمطربة أنوشكا، وأحيت الأخيرة مؤخرا حفلا فنيا في أرمينيا قبل أسبوعين ومنهم أساتذة بالجامعات.
وأشار مظلوميان إلى أن عددا كبيرا من الأرمن الذين كانوا يقيمون في مصر هاجروا إلى أوروبا وأستراليا وأميركا، مؤكدا أن أول وزير خارجية في مصر كان أرمينيا هو بوغوص يوسيفيان.
ويؤكد الدكتور أرمين أن الأرمن المصريين لديهم كنائس خاصة بهم ومدارس تابعة لهم، والغالبية يتزوجون من بعضهم بعضا، ولهم أندية خاصة بهم في مصر مثل النادي الأرميني في مصر الجديدة، مضيفا أن أرمن مصر لديهم وطنان وهما مصر الوطن الذي ولدوا وتربوا وعاشوا فيه وحصلوا على جنسيته، وأرمينيا التي يعتبرونها أرض الأجداد وموطن الجذور.