منذ تأسيسه في ثمانينات القرن الماضي، عمل حزب الله في لبنان بعد بناء ترسانته العسكرية على إنشاء اقتصاده من خارج المؤسسات الرسمية اللبنانية.
فقد تشكّل هذا الاقتصاد من مؤسسات اجتماعية وصحية وتعليمية رديفة لتنظيمه العسكري، معتمداً بشكل أساسي ومباشر على التمويل الإيراني، وذلك باعتراف رسمي من أمينه العام حسن نصرالله الذي قال في إحدى المناسبات إن كل أمواله ورواتب عناصره وميزانيات مؤسساته تأتي من إيران، والمقدّر في السنوات الأخيرة بنحو 600 مليون دولار. وقد ساهم هذا الدعم في تغطية نفقاته المالية من الحاجات المادية والعسكرية، إضافة إلى المساعدات الاجتماعية لعوائل القتلى من صفوفه ورواتب المتفرّغين.
مؤسسات اجتماعية وتعاونيات استهلاكيةيضمّ الاقتصاد الموازي الذي يُدير به حزب الله شبكة أمواله مؤسسات اجتماعية مثل "مؤسسة الشهداء"، جمعية الإمداد الخيرية، شركات مقاولات وتعهدات أشغال بنى تحتية مثل شركة "البنيان للهندسة والمقاولات"، بالإضافة إلى تعاونيات استهلاكية مثل سوبرماركت "الموسوي ستار"، وشركات إنتاج الألبان والأجبان، وشركات تصنيع المطاط الصناعي، وتجارة السيارات.
ولعل المؤشر الأبرز في الاقتصاد الموازي لـ"حزب الله" هو "جمعية قرض الحسن" التي أسسها عام 1982 وباتت أشبه بمصرف مركزي لمنظومة الحزب المالية بعدما توسّع دورها تدريجاً لتصبح المركز المالي الأول للبيئة الشيعية من خلال استحواذها على كميات ضخمة من الذهب كونها ترهنه في مقابل قروض مالية ميسّرة.
دولار طازجواللافت في ذلك أن تلك الجمعية غير مدرجة على لائحة المصارف المرخصة من "مصرف لبنان"، وتعمل خارج النظام المصرفي اللبناني.
وفي وقت توقفت المصارف اللبنانية عن عن إعطاء الدولار لأصحاب الودائع، ووضعت سقوفاً منخفضة على السحوبات بالعملة اللبنانية، استحدثت جمعية قرض الحسن خدمة الصرّاف الآلي (ATM )، وبدأت اعتمادها في بعض فروعها، كما أعطت الدولار "الطازج" لزبائنها.
اقتصاد الـ "كاش"لا يعتمد حزب الله على النظام المصرفي التقليدي، وإنما نظام الحوالات والتداول نقداً "كاش"، وذلك عبر شركات صيرفة أُدرج بعضها على لوائح العقوبات إلى جانب صرّافين غير شرعيين يسرحون ويمرحون في معقله في الضاحية الجنوبية.
ووفق محللين وخبراء اقتصاديين، يسعى حزب الله إلى استبدال النظام المالي والمصرفي بنظامه الموازي القائم على الاقتصاد النقدي.
معابر التهريباستفاد حزب الله من المرافق الحيوية للدولة اللبنانية من أجل تمويل اقتصاده الموازي، حيث شكّل مرفأ بيروت الذي انفجر في 4 أغسطس/آب الماضي باباً رئيسياً لتعزيز اقتصادهفكان الحزب يُدخل مواداً عبر المرفأ من دون أن يدفع رسوماً جمركية على أساس أنها لـ"المقاومة"، فيتم إدخال كل المواد التجارية بدون أن يدفع أصحابها الضرائب والرسوم المقررة إلى الدولة وإنما تعود إليه.
كما استفاد من مطار بيروت لإدخال ما يريد، وهو ما تحدّثت عنه تقارير دولية في الأونة الأخيرة.
من مطار بيروت
والى جانب المرافق العامة، ساهم التهريب عبر المعابر غير الشرعية بدعم اقتصاده الموازي، وهو ما حرم الخزينة اللبنانية من عائدات الجمارك وفي استنزاف احتياطي "مصرف لبنان" من العملات الصعبة، لأن معظم السلع المهرّبة مثل المحروقات والقمح مدعومة من البنك المركزي وفق سعر الصرف الرسمي لليرة مقابل الدولار (1515).
تابع إيرانفي هذا السياق، أفاد السفير اللبناني السابق هشام حمدان لـ"العربية.نت"، أن حزب الله جهاز تابع لإيران ويتلقّى التمويل منها، وبالتالي يسعى للاستفادة من النظام اللبناني من أجل تعزيز قوّته المالية وبالتالي تخفيف الضغط عن إيران، خصوصاً بعد الضغوط الدولية عليها.
وأوضح أن اقتصاد حزب الله يعتمد على التمويل الإيراني، وجزء من الأموال الإيرانية كانت تأتي عبر المصارف، لكن بعد إخضاع النظام المصرفي اللبناني للمراقبة من أجل منع تمويل الإرهاب، تحوّلت نحو طرق اخرى منها التحويلات.
أموال إيرانية عبر الطائراتمن جهة أخرى، ساعدت الأموال الإيرانية بحسب السفير حمدان حزب الله على بناء شركات في إفريقيا وأميركا اللاتينية، وكانت تحوّل عائداتها إلى مصارف في دول نامية أخرى ثم تُسحب نقداً وتُنقل عبر طائرات إلى لبنان.
مرفأ بيروت
وتابع أن هذه الأموال كانت تُستخدم لتمويل مشاريع صحية واجتماعية وعسكرية تابعة للحزب، وشراء المعدات لتطوير قدراته اللوجيستية. وكل هذا يتم خارج الاقتصاد الشرعي المتمثّل بالقطاع المصرف مصرف لبنان وإنما بطرق غير شرعية.
ماذا عن الجريمة المنظمة؟إلى ذلك، تحدّث السفير حمدان عن مداخيل غير منظورة تدرّ الأموال عليه، مثل تورّطه في الجريمة المنظّمة، كتجارة المخدرات، كاشفاً أن هناك شخصيات عديدة تنتمي إلى بيئته الحاضنة متورّطة بهذه التجارة، مؤكداً أن الميليشيا تغض النظر عن العمليات المشبوهة.
اقتصاد أسودمن جهته، اعتبر الباحث في المؤسسة الدولية للمعلومات محمد شمس الدين في حديث لـ"العربية.نت"، أن الاقتصاد الموازي لـ"حزب الله" هو جزء من الاقتصاد اللبناني، دون وجود معلومات عن حجمه، وأكد أن يتأثّر بأوضاع البلد العامة.
وأوضح أن الأرقام والتحليلات حول موازنة "حزب الله" غير دقيقة وبعيدة بعض الأحيان من المنطق.
بدوره، اعتبر الباحث السياسي والأستاذ الجامعي مكرم رباح لـ"العربية.نت" "أن حزب الله يعتمد على الاقتصاد الأسود لأسباب عدة أبرزها أنه يُشكّل المدخل له نحو عالم الجريمة، من أجل "تنظيف" أمواله المُجناة من تجارة المخدرات وتجارة السلاح".
وأشار إلى أن سلاح حزب الله يقوّي التجارة الخارجة عن القانون عبر المعابر غير الشرعية ويُعزّز التهرّب الضريبي، لاسيما في المناطق المحسوبة عليه، من هنا يرفض عمليات الإصلاح، لاسيما البرنامج الإصلاحي الذي يطرحه صندوق النقد الدولي، وذلك لأنه يطال هذا النوع من التجارة.
حزب الله (أرشيفية- فرانس برس)
كذلك، لفت الدكتور سامي نادر، مدير مركز المشرق للشؤون الاستراتيجية في بيروت لـ"العربية.نت" إلى أن حزب الله يُراكم مصادر تمويل اقتصاده الخاص على حساب عائدات الدولة من خلال عمليات التهريب عبر المعابر غير الشرعية والتهرّب الضريبي وعدم دفع رسوم وفواتير، خصوصاً في المناطق المحسوبة عليه، معتبراً أن تراجع الاقتصاد الوطني سيؤثّر على الاقتصاد الموازي لـ"حزب الله".
رؤية اقتصادية معدومةيشار إلى أن حزب الله لم يستطع طوال السنوات السابقة تقديم رؤية اقتصادية تتضمّن اتّخاذ قرارات مصيرية، بل ركّز على تبنّي سياسة دعم لقطاعات مثل الزراعة والصناعة وهي وزارات تولاها لسنوات، لاسيما الزراعة، بدلاً من الخدمات التي ارتكز عليها الاقتصاد اللبناني منذ الاستقلال.
كما أن الخدمات باتت صعبة في ظل التنافس والتبدلات الاقتصادية وتراجعها في لبنان نتيجة لسياسات حزب الله ضد العرب والخليجيين تحديداً والعقوبات المفروضة عليه.
مناصرون لحزب الله يرفعون رايته في لبنان (أرشيفية- فرانس برس)
ولفت الباحث في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، مهنّد الحاج علي لـ"العربية.نت"، إلى أنه لا يوجد لدى حزب الله رؤية اقتصادية، لأنه تنظيم عسكري إيديولوجي لا يضمّ في صفوفه خبراء اقتصاديين، والحلول الاقتصادية التي يطرحها شعبوية غير قابلة للتطبيق، مشيراً إلى أن الحزب لا يستطيع بناء اقتصاد موازٍ وإنما مؤسسات اجتماعية خاصة به تموّل خارجياً وتوفّر الوظائف للبيئة الحاضنة له.
إلى ذلك ختم أن تجربة حزب الله في الحكم لم تكن مُشجّعة، لاسيما في القطاع الصحي، كما أن خطة الاكتفاء الذاتي بالزراعة بعنوان "الجهاد الزراعي" التي طرحها أخيراً أمين عام الحزب حسن نصرالله لمواجهة الحصار المفروض على لبنان فشلت.