ربما يتبادر إلى أذهان الكثيرين تساؤل حول السبب لاستمرار رئيس تركيا رجب طيب أردوغان في إجراء الانتخابات، على الرغم من أن حزبه يسرق موارد الدولة لحملته الانتخابية ويقوم بترهيب المنافسين المحليين.
كما أن أسرته وحلفاؤه يسيطرون على معظم القنوات التلفزيونية في تركيا، ويواجهون معارضة ضئيلة في الصحافة. علاوة على أنه في الفترة التي تسبق يوم الاقتراع، يحصل أردوغان على 10 أضعاف وقت البث مقارنة بأقرب منافسيه، وفقا لما جاء في مقال نشرته "ذا التايمزThe Times" البريطانية للكاتبة هانا لوسيندا سميث.
وتستطرد الكاتبة الشهيرة ومؤلفة كتاب "صعود أردوغان: معركة من أجل روح تركيا" قائلة: إنه حتى عندما لا يفوز أردوغان، فإنه يجد طرقًا لجعل الأمر يبدو وكأنه لم ينهزم.
وتحتكر "الأناضول"، وكالة الأنباء الرسمية، النتائج الأولية للانتخابات وتنقل محصلات أعداد الأصوات من المعاقل الموالية لأردوغان أولاً، لجعلها تبدو وكأنه يتربع على الصدارة. وفي كثير من الأحيان، يتم الإعلان عن الفوز قبل الانتهاء من فرز الأصوات ويتدفق أنصاره في توقيت متزامن إلى الشوارع.
إدمان الديمقراطية المصطنعة
يعاني أردوغان من حالة إدمان لإقامة هذا العرض المصطنع للديمقراطية، بحسب ما جاء في مقال سميث، والتي تشير فيه إلى أنها قامت بالعمل كمراسلة لمتابعة مجريات 7 جولات من الانتخابات والاستفتاء منذ الانتقال إلى تركيا قبل 6 سنوات، وهي المدة الزمنية الضيقة التي لا تدع متسعا للتحقيق أو الإبلاغ عن الفساد الهائل الذي يسود طفرة الإنشاءات والبناء في تركيا، أو الحرب ضد المسلحين الأكراد في جنوب شرق البلاد، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 6000 شخص منذ عام 2015 وتشريد مئات الآلاف، وكل ما سبق هو مجرد جزء واحد من الكثير من الممارسات القاتمة لأردوغان.
إن الحملات الانتخابية لأردوغان، التي يتم إجراؤها وسط تجمعات جماهيرية حاشدة يعتلي أمامهم خشبة مسرح، هي جزء آخر من الممارسات، حيث يبدو أردوغان في أسعد حالاته عند الظهور أمام حشد جماهيري مروض، ويفضل أن يكون ذلك إلى جانب عدو يدس السم في العسل.
ويعتبر افتعال دور الضحية الإسلامية اختيارا جيدا، ويعد اتهام الغرب بالنفاق هو الاختيار الأفضل لديه.
أردوغان منافق
ويظهر نفاق أردوغان نفسه واضحا عندما يدعي أنه يلبي ويسن إرادة شعبه، بينما هو، في الوقت نفسه، يتحصن بعيدا داخل أسوار قصره محاطا بزمرة من الأتباع. ولقد قام بالفعل بتأمين إحكام قبضته على السلطة التنفيذية وقوات الأمن والقضاء من خلال عمليات التطهير والإصلاح الدستوري.
لم يستخدم أردوغان سلطته لتحسين أحوال بلده. تم إهدار معظم القروض الرخيصة، التي تدفقت على تركيا خلال العقد الماضي، على مشاريع التشييد والبناء، التي تعود بالثراء على أصدقائه بدلاً من استثمارها في التعليم أو تحديث القطاع الصناعي.
وعلى الرغم من أن الليرة قد انخفضت، إلا أنه يصر على التحكم في أسعار الفائدة للحفاظ على تدفق الائتمان، الأمر الذي أدى بدوره إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود. وأسفرت سياسات أردوغان بالتدخل في شؤون الشرق الأوسط، منذ بداية الربيع العربي، إلى نزوح 3.6 مليون لاجئ سوري إلى تركيا، وهي نقطة بالغة الحساسية للعديد من الأتراك، الذين يكدحون من أجل لقمة العيش، فيما يلقي أردوغان باللوم على التدخل الأجنبي، الذي تسبب في كل السلبيات.
السقوط بمعدلات سريعة
كانت هوامش الفوز لأردوغان بنسب ضئيلة دائما، وهي تتساقط بمعدلات سريعة حاليا. وبكل المقاييس، كانت ليلة 31 مارس كارثية بالنسبة لأردوغان؛ حيث كان قد قدم الانتخابات المحلية كاستفتاء على شعبيته، ولكن فقد حزبه الكثير من المقاعد في أنحاء البلاد، بما في ذلك جميع المدن الكبرى.
فاز حزب كردي بمقاعد معظم جنوب شرق تركيا، على الرغم من سجن زعيمه وأعضاء آخرين على إثر اتهامات مزعومة بارتكاب جرائم إرهابية. كما خسر أردوغان إسطنبول وأنقرة، اللتين يديرهما رؤساء بلديات إسلاميون منذ عام 1994، لصالح المعارضة العلمانية على الرغم من أن وكالة "الأناضول" بذلت قصارى جهدها، حيث قامت بقطع البث الحي المباشر أثناء الإعلان عن فوز منافس أردوغان في إسطنبول.
جوقة الأكاذيب الموحلة
لم يكن أردوغان، يتصور وفقا لمخيلته التي يغطيها وحل أكاذيب جوقة المنافقين المحيطة به، أن يتلقى مثل هذه الضربة. وغادر المقر الرئيسي لحزبه في تلك الليلة غاضبا. فيما يقول المطلعون إنه صب جام غضبه على صهره بيرات البيرق، وزير الاقتصاد ووريثه المُفترض، الذي أشرف على الحملة.
ولكن لم يمض وقت طويل قبل أن تقرر الدائرة الضيقة المحيطة به العمل بمبدأ "أنه إذا كنت غير راض عن النتيجة، فقم فقط بتغييرها". وقاموا بالفعل بالسعي، دون جدوى، للإطاحة بمرشح المعارضة في إسطنبول ثم قاموا فيما بعد باستبدال الأكراد الفائزين في الانتخابات في بلديات جنوب شرق البلاد بآخرين من أصدقاء أردوغان.
مبتكر علم "الاستبداد الحديث"
إن أردوغان، لا يستخدم كل حيلة في كتيب "الاستبداد الحديث" فحسب، وإنما هو أيضا يبتكر بنفسه. ويطلق المنظرون على هذه الحالة "الاستبداد التنافسي"، حيث تقوم الديكتاتورية باستعارة بريق ولمعان الديمقراطية من خلال لعبة انتخابات أحادية الاتجاه.
وفي جميع أنحاء أوروبا، يتعلم جيل جديد من الشعوبيين من هذه الخدع والحيل ويقومون بتحويل الديمقراطيات المعيبة لتصب في مصلحتهم عن طريق التسلل عبر الثغرات في الدساتير والفجوات في القوانين المنظمة لأنشطة وسائل الإعلام والمجتمع المدني. وتعلموا من مراقبة ما يفعله أردوغان، أنهم يمكنهم التصرف بحرية مطلقة تحت غطاء الديمقراطية الزائفة، لطلاء الوصول بطرق غير شرعية إلى السلطة.
وتسوق الكاتبة هانا سميث في مقالتها أمثلة على ذلك من صربيا والمجر والبوسنة، مشيرة إلى أنه لا يمكن لعباءة البلاغة الديمقراطية المزيفة والانتخابات المستمرة تخفي إلى الأبد أن هناك بنية غير ليبرالية فاسدة.
لقد تعثر أردوغان في الانتخابات المحلية وظهر ذلك من خلال ردود أفعاله العنيفة على مرأى من الجميع، عدا أنصاره الأكثر ولاءً، والذين يتراوح عددهم بين 20 و30% من الناخبين الأتراك. وحصلت جبهة المعارضة أيضا على احتمالية الفوز بالانتخابات المقبلة، المقرر إجراؤها في عام 2023، ما لم يقرر أردوغان إلغاءها.
مرض وبائي معدٍ
إن خيارات أردوغان حاليا تتراوح ما بين الاستمرار في تمثيلية الديمقراطية أو تجاهلها وممارسة الحكم كدكتاتور غير منصف. تشير تصرفاته الأخيرة إلى أنه يميل نحو الاختيار الثاني، أما الخيار الثالث، وهو التنحي عن طيب خاطر، فهو أحد الإجراءات التي أظهر أردوغان أنه لن يوافق عليها.
وفي تحذير من أن خطر أردوغان لا يقتصر على تركيا فقط وإنما يمتد لدول أخرى في أوروبا وكأنه مرض وبائي تتنقل عدواه إلى مناطق أخرى، حيث تتوقع هانا لوسيندا سميث أن المسار الذي يسلكه أردوغان في تركيا سيؤثر على الشعبويين في أوروبا، الذين ينظرون إليه كمعلم ونموذج يحتذى به في الاستبداد التنافسي.
وتختتم المقال قائلة: راقبوا ما سيجري في تركيا إذا كنتم تريدون استكشاف الخطوة التالية التي ستحدث في بلدان أوروبية مستقبلا.