كتبت جنى الدهيبي في المدن:
بعد أن ترافقت كل جولة له مع إشكال أو "استفزاز". وبعد واقعة الأحد الماضي في الجبل، بات الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية والمغتربين، جبران باسيل، إلى طرابلس، الأحد المقبل في 7 تموز 2019، موضع سجالٍ كبيرٍ، شمالًا. ما حدث في الجبل، والدماء التي هُدرت على أرضه، أشعل هذا السجال وفاقمه، لدرجةٍ قد يحظى فيها باسيل بـ"جائزة أثقل زائر" يمكن أن تطأ قدماه بيتًا أو قريةً أو مدينة. وإذا كان باسيل يستثمر إلى الحدود القصوى "ثقل" زياراته على مستقبليه، وما ينتج عنها من خطاباتٍ طائفية وفتنوية وشعبوية، تعيدنا إلى لغة الحرب، فقد تحولت أحداث الجبل المشؤومة إلى منعطف بالنسبة لأهالي طرابلس، بما تمثّله سنيًا، في طريقة تعاملهم مع هذه زيارة المنتظرة.
حتّى الآن، لم تُحسم رسميًا مسألة زيارة باسيل إلى طرابلس من عدمها في التاريخ المحدد، بعد أحداث الجبل. ورغم أنّ الأجواء المتداولة كانت توحي أنّ مصير هذه الزيارة قد يكون التأجيل لوقتٍ لاحق، إلّا أنّ باسيل في مؤتمره الصحافي الثلاثاء، أعطى انطباعًا أنّها لا تزال قائمةً من دون حسم تاريخها، ردًّا على سؤاله عن زيارة طرابلس بالقول: "سنزور كلّ المناطق وسنبقى على سياسة الانفتاح وسنكتشف من يريد افتعال الفتنة ويمنع التلاقي".
"الفتنة المتنقلة"
وصف زعيم زغرتا سليمان فرنجية باسيل بـ"الفتنة المتنقلة". وفي الجوّ العام الشعبي، يبدو أنّ طرابلس يتقاطع موقفها من باسيل مع جارها "المسيحي" في زغرتا، وترفض زيارته لما تعتبره درءًا لعدوى "الفتنة المتنقلة"، وليس لمبدأ رفض استقبال الزائر في مدينةٍ يتوجب عليها تشريع أبوابها للجميع، مهما اختلفت معهم وعنهم. لذا، استطلعت "المدن" آراء ممثلي قيادات طرابلس السياسية حول جولات باسيل وأحداث الجبل، وسألتهم عن موقفهم من مضمون زيارة باسيل إلى طرابلس: فهل يؤيدون هذه الزيارة أم يرفضوها؟
خلدون الشريف: عدم استقبال باسيل رسالة شخصية له
يركّز مستشار الرئيس نجيب ميقاتي، الدكتور خلدون الشريف، على وظيفة طرابلس كمدينة وعاصمة ثانية للبنان، وينطلق منها رفضًا لمبدأ قطع الطرقات على زائريها: "المدن هي مكان للانصهار، وحين تصبح مغلقة لا تبقى مدنًا". ومع ذلك، فـ"نحن ناسٌ ديموقراطيون، وللديموقراطية وسائلها في التعبير، من دون أن تمسّ السّلم الأهلي، ومن دون أن تغيّر وجه المدينة". ويعتبر الشريف أنّهم يريدون دائمًا استخدام طرابلس على اعتبار"جسمها لبّيس"، وأنّ البعض يستسهل استخدامها إمّا بالتلويح لخصمه، وإمّا لاتهامها بالإرهاب. وبالتالي: "هذه الصورة النمطية، يجب أن نزيلها عن المدينة، وأن نؤكد انفتاحها على الجميع، مع رفضها لمواقف باسيل، ومع التشديد على حقّ للناس أن تعبر عن رفضها لزيارته بالطرق السلمية المطلقة".
الأولوية حاليًا بالنسبة للشريف، هي "في تصفية النفوس وتخفيف الاحتقان وعدم رفع منسوب التوتر". وانطلاقًا من قناعته وموقفه الشخصي، يدعو قيادات طرابلس السياسية ورجالات الدين كافة فيها، أن لا يستقبلوا باسيل في طرابلس، كرسالة له، حتّى يغيّر مواقفه المتشنجة، متمنيًا أن تكون رسالة طرابلس واحدة وموحدة: "في رفض الخطاب التحريضي والاستفزازي والاختزالي مقابل تعزيز الحرص على طرابلس كمدينة منفتحة".
فتور العلاقة بين باسيل والرئيس ميقاتي، ليس خافيًا على أحد، وتتأصل جذروه منذ أن كان باسيل وزيرًا في حكومة ميقاتي في العام 2011. لا وجود لطيبات بين الرجلين، وهو ما تؤكده مواقف ميقاتي الأخيرة، لا سيما في تصديّه المتواصل لمحاولات الاعتداء على مقام رئاسة الحكومة وصلاحياته. فـ"خطاب ميقاتي مقبول من كل الأطراف، عكس خطاب باسيل المرفوض من أغلب الأطراف". ورغم الاختلاف، "نحن لسنا على قطيعة مع التيار الوطني الحر، لكن هناك مواقف وتوجهات وثوابت من منظور مختلف ومتناقض".
ما يميّز الرئيس ميقاتي بالنسبة للشريف، هو أنّه "رجل دولة"، و"نحن نفكر بذهنية رجال الدولة الذين لديهم مواقف. لكن المصلحة الوطنية العامة، ومصالح المدينة و الشمال التي نمثلها، هما ما نتحرك على أساسه، على المدى الطويل، ولا نتحرك على ردود الفعل العشوائية والسريعة مهما كانت مفهومة". أمّا الاعتراض على أسلوب باسيل، وفق الشريف، فيجب مواجهته بأسلوبٍ يُخسّره في السياسة، وبردود فعل وطنية وليست طائفية. فـ"أسلوبنا يجب أن يكون على نقيض أسلوبه، بالمعنى السياسي والفكري والأداء، لا سيما أنه يتوجب علينا حماية كل المقامات والتمسك بالدستور ومنع الاعتداء على الصلاحيات، ودحض منطق التمييز بين المواطنين على أساس طائفي أو مذهبي أو مناطقي".
مصطفى علوش: تاريخ عون وباسيل استفزازي للسنّة
يؤكد عضو المكتب السياسي في تيار المستقبل، الدكتور مصطفى علوش، على عدم السماح في التشكيك بهوية طرابلس، كـ"مدينة مفتوحة للجميع". لكنّ المؤكد أكثر، وبعد التجربة التي مرّ بها باسيل في الجبل وفي مناطق أخرى، وفي ظلّ الجوّ العام داخل المدينة، "لديّ قناعة أنّه من الأفضل على باسيل بدل إثارة الفتن والإشكالات الأمنية وردود الفعل، أن يكون بغنى عن هذه الزيارة". وقبل أن يأتي إلى طرابلس، فـ"ليرسل على الأقل رسائل إيجابية تخفف من نقمة الطرابلسيين عليه، حتّى يستطيعوا الترحيب به".
يصوّب علوش مسار حديثه، بالتذكير أنّه يتحدث عن نفسه، بوصفه عضو مكتب سياسي، وليس باسم الرئيس سعد الحريري، حتّى يكون أكثر ارتياحًا، ويقول: "تصرفات جبران باسيل، تسبب بفتنة في البلد، ولست ادري إن كان يتقصد ذلك أو هو بطبيعته يحب إثارة القلاقل حوله والإشكالات أينما ذهب". يرفض علوش اعتبار ما يفعله باسيل تذاكيًا يُسجّل له للكسب في شارعه المسيحي، مذكرًا أنّ جزءًا كبيرًا من الشارع المسيحي يقف ضدّه، حتّى وإن كان يكسب تأييد بعض المتطرفين والمتعصبين. لكنه في المقابل، "يخسر من يتطلعون إلى السلم الأهلي، لا سيما أنّ استثماره بالشعبوية يُكسّبه للحظات ويُخسّره على المدى الطويل".
إذا كان جبران باسيل ينوي أن يصبح رئيسًا للجمهورية، بالنسبة لعلوش، عليه أن يكون على الأقل شخصية غير استفزازية، "وأن يتخلص من الفراغ الفكري الذي يعاني منه، مثل معظم السياسيين في البلد، ما قد يدفعه إلى تصرفات مثيرة ومؤذية، حتى يستدرج بعض التصفيق والتأييد، أو ربما حتى يستدرج بعض الاستهجان وردات الفعل القاسية، كي يحمّس الجمهور المتعصب على التصلب حوله".
يوحي كلام علوش كأن الاشكال الأخير الذي وقع بين "المستقبل" وباسيل على خلفية تصريحاته عن "السنية السياسية" في البقاع، لم تبرد في نفوس الكوادر السياسية والشعبية للتيار الأرزق. يدعو علوش إلى مراجعة سجل التيار الوطني الحرّ، بدءًا من عودة رئيس الجمهورية ميشال عون إلى لبنان في العام 2005، مرورًا بباسيل على مدار 15 عامًا، واصفًا إيّاه بـ"تاريخ استفزازي من الدرجة الأولى، للطرابلسيين وللطائفة السنية بشكلٍ عام". لذلك، فـ"الاشكال الكبير الذي حدث بين المستقبل وباسيل منذ فترة، جاء على خلفية مواقف طويلة الأمد، ومواقف متكررة يدلي بها باسيل، على غرار ما كان يدلي به الرئيس عون". ما يعني أنّ القضية ليست قضية حدث معين، وإنما "قضية نهج دأب عليه جبران باسيل، منذ عودة ميشال عون إلى لبنان".
لكن، ماذا عن المصالحة بين الرئيس الحريري وباسيل بعد الإشكال؟ يجيب علوش: "تسمية المصالحة خاطئة، وإنّما هي تفاهم رئاسي على التسوية، من دون أن يلغي الخلاف العميق الموجود بين توجهات التيار الوطني الحر وتيار المستقبل على مختلف المستويات". اليوم، "كوادر المستقبل، لم تجد سبيلًا للتفاهم مع كوادر الوطني الحرّ، لا على المستوى السياسي ولا على مستوى المنطق. وحاليًا تبدو الأمور أسوأ مما كانت عليه في الماضي. لأنه بعد فترة "شهر العسل" التي كان فيها مهادنة، سقطت بسبب التصريحات العفوية والمقصودة لباسيل، وبسبب ردود فعل الموتورين المحيطين به، وهو ما نخشى تكراره في طرابلس أثناء زيارته، خصوصًا أن التفاهم الحالي قائم على مسار الحكم بأقل قدر من الاهتزاز، حتّى لا يتضرر البلد ويستطيع الاستفادة من مخصصات مشاريع سيدر وتقديماته".
أشرف ريفي: باسيل سائح فتنة
على غرار الشريف وعلوش، يؤكد اللواء أشرف ريفي أنّ طرابلس لا تضع "فيتو" على الوافدين إليها، وأنّ من حقّ أيّ أحد أن يزورها، ويتجول بها بشكل طبيعي. لكن، ما يفعله باسيل، يصفه ريفي بـ"سياحة الفتنة". لذا، يدعوه أنّ يجنّب البلد والمدينة الإحراج، لأنه "لو كان زائرًا عاديًا، يتفهم واقع البلد، وخصوصيته، كنا سنحترمه ونستقبله".
يُذكر ريفي أنّ باسيل يسعى لحرمان طرابلس من المنطقة الاقتصادية لصالح البترون، وأنّه حرم عكار أيضًا من مشروع فرع الجامعة اللبنانية، ويسعى لانتزاع جميع المراكز من أجل حجزها لـ "أزلامه"، بينما هو "مشروع فتنة، وتحركاته تدل عن جهله لتكوينة البلد. وهنا، يوجه تحية لأهالي البترون قائلًا: "أنتم تعرفون جبران أكثر منّا، لقد أسقطتموه مرتين في الانتخابات البلدية والنيابية، ولولا القانون الذي فصّل على مقاسه ومقاس حلفائه، لما استطاع أن يؤمن وصوله للبرلمان في انتخابات أيار 2018".
يعلن ريفي تأييده لموقف فرنجية حين وصف باسيل بـ"الفتنة المتنقلة"، يقول: "لا يحتاج لدليل، دليله منه، في سلوكياته وكلامه وكلّ تحركاته واستفزازه للواقع اللبناني". ما حصل في الجبل، وفق ريفي، يجب أن يكون درسًا لباسيل بشكل خاص، وللعهد بشكل عام، من دون أن يستغربوا حجم التأزيم في البلد والتخبط الواقع، نتيجة ما يقومون به.
رفض ريفي لزيارة باسيل إلى طرابلس، لا يفصله عن تضامنه الكامل مع النائب السابق وليد جنبلاط، فـ"أنا أتضامن مع جنبلاط علناً على السطح ومع أهلنا في الجبل، وليس مقبولًا أن يخترق أحد خصوصية الآخر بهذه الطريقة". لذا، يتوجه ريفي إلى الرئيس الحريري ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بالنداء قائلًا: "لا تتخليا عن حليفكما الاستراتيجي وليد جنبلاط. وإذا استطعوا التغلب عليه رغم كل مقاومته، سيأتي الدور عليكما وعلينا واحدًا تلو الآخر. واجبنا أن نكون إلى جانب جنبلاط، كي لا يؤكل ولا نؤكل معه، لا سيما أنّ مشروع باسيل والعهد لا يحترم الآخر ومناقض لطبيعتنا". يقول للحريري: "قف إلى جانب وليد جنبلاط ولا تتخلى عنه"، ويقول لجعجع: "أسمعنا صوتك بالتضامن معه".
ورغم مصالحته مع الرئيس الحريري، لا يعتبر ريفي أن انتقاداته تعارض هذه المصالحة، مؤكدًا على انسجامه مع نفسه بأنه كان ضدّ التسوية الرئاسية منذ نشوئها. فـ"خلال فترة الشغور الرئاسي، كان وضع البلد الاقتصادي والاجتماعي والأمني وعلاقاته مع الدول العربية أفضل من الآن بأضعاف. والخطيئة في التسوية الرئاسية، بدأت حين جاؤوا بممثل حزب الله إلى رئاسة الجمهورية. والأيام تثبت أن الوضع غير طبيعي، والأمن ليس طبيعيًا أيضًا، فيما باسيل يصول ويجول ويريد أن يأتي لطرابلس حتّى يأخذ البلد لحرب أهلية عبر حقنه طائفيًا".
ينفي ريفي أن يكون قد أعطى توجيهًا رسميًا لمناصريه، حتّى يقطعوا الطريق على باسيل أثناء زيارته إلى طرابلس. والتعبير عن رفض الزيارة، "سيكون بشكلٍ حضاري ومحقّ وليس بالأسلحة". وفيما كان قد سُرّب أنّ محطة باسيل الأولى في طرابلس ستكون لدى مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار، يتوجه ريفي للشعار برسالةٍ مفادها: "حان الوقت أن تتفهم عقلية مدينتك، وعليك حقّ بأن تحترم مشاعر أهلها، وأن لا تشرّع أبوابك لشخصية فتنوية غير مرحب بها".
فيصل كرامي وحيدًا يرحّب
في الواقع، يبدو أنّ النائب فيصل كرامي، هو الممثل السياسي (السّني) الوحيد في طرابلس، الذي يؤيد ويرحّب بزيارة باسيل إلى طرابلس. وخلال تعليقه على أحداث الجبل، شدد على مبدأ أنه لا يوجد منطقة في لبنان مقفلة أبوابها أمام أحد، لا سيما أمام باسيل الذي يعتبره شريكًا أساسيًا في التسوية القائمة وفي الحكومة.
"الودّ" المتبادل بين كرامي وباسيل، قد لا ينفصل عن مفاعيل السحور الرمضاني الذي سبق أن أقامه الأخير في دارته على شرف كرامي. ولدى سؤال أوساط كرامي المقربة عن رأيها بموقف فرنجية، حليفهم المسيحي الأول، بوصفه باسيل "فتنة متنقلة"، تشير أنّ لكل حليفٍ حقّ الاختلاف من دون أن يفسدّ في العلاقة شيئًا، مؤكدة أنّ طابع طرابلس كعاصمة ثانية يحتّم عليها أن تستقبل جميع زوارها بالرحب والسعة، وأنّ باسيل وحده من يقرر إن كان سيأتي إلى المدينة أو يؤجل زيارته لموعدٍ آخر، من دون أن يكون لأحد منيّة عليّه. فـ"حين أقامت القوات اللبنانية إفطارًا رمضانيًا في طرابلس لم نعترص عليه، أمّا باسيل، فهو شريك أساسي للمستقبل ولا يجب التهرب من الحقيقة، لذا لا نفهم سبب رفض استقباله في طرابلس".