سجن روميه: سجناء على نفقتهم الخاصة

سجن روميه: سجناء على نفقتهم الخاصة
سجن روميه: سجناء على نفقتهم الخاصة

خليط من الرهبة والترقب والأسى ينتاب من يزور أكبر سجن في لبنان، سجن رومية.

مشهد الملابس الملونة المتدلية من نوافذ الزنازين بات مألوفاً، غير أن ألف سؤال يتدافع في ذهن الزائر، ما أن يدخل الباحة المسيّجة بجدران إسمنتية مرتفعة.

سبقت زيارتنا للسجن إجراءات طويلة وأذونات متعددة انتظرنا أشهراً للحصول عليها. أما ما دفعنا لمعاينة الوضع هناك، فهو سؤال بسيط: إذا كانت الدولة في لبنان عاجزة عن تأمين الطعام والطبابة للعناصر الأمنية ولقواتها العسكرية، فكيف تكون قادرة على تأمين ذلك للسجناء؟

سؤال ليس من المحظورات ولا حرج لدى أحد في الإجابة عليه. فالوضع أسوأ بكثير من أن يُجمّل، وحتى القليل الذي تؤمّنه السلطات تعتبره إنجازاً في ظلّ كل التحديات التي تواجهها.

في سجن رومية أربعة مبان يشبه بعضها البعض الآخر. دخلنا المبنى دال. في باحته الخارجية، تحلّق عدد من السجناء، ثم بدأ بعضهم ينادي على الآخرين. الشكوى واحدة على لسان الجميع: غياب الدواء والرعاية الصحية.

“إذا مرض السجين لا يجد حبة دواء. قد يحتضر من الألم وليس من علاج”، يقول لي أحد السجناء.

تفاقمت مشكلة الأدوية والعلاج في السجن منذ أكثر من عام. في السابق كانت طبابة السجناء على نفقة الدولة. ولكن مع الارتفاع الهائل في أسعار الدواء وبعد رفع الدعم عنها، لم تعد الدولة قادرة على تأمين كلفة العلاجات، وبدأت تظهر الوصفات الطبية ممهورة بجملة “على نفقة ذويه”- أي أنه يُطلب من ذوي السجين تأمين الأدوية له.

أمام هذا الواقع يبقى كثيرون عاجزين عن تأمين الأدوية، في وقت يحاول السجناء في بعض الحالات جمع ثمن الدواء بينهم لتأمينه لسجين زميل.

أما إدارة السجن فتحاول البحث عن مصادر بديلة للأدوية، من بينها الجمعيات الأهلية والهبات.

يطيل السجناء في الحديث عن مشكلة شح الأدوية. يقول أحدهم: “نعتمد بشكل أساسي على الأدوية التي تصلنا من الصليب الأحمر ومن الجمعيات الإنسانية، والكميات التي تصل تنتهي بسرعة كبيرة. الدولة غير قادرة على فعل شيء. إذا مرض أحدهم، نجمع الأموال في ما بيننا ،كل حسب قدرته وندفع بالنيابة عنه”.

وفي الوقت الذي بدا فيه أن مرضى السرطان ومن يحتاجون لغسيل كلى، لا يزالون يتلقون علاجاتهم، إلا أن أي شيء آخر مرتبط بالطبابة من عمليات وصور أشعة وغيرها، لم يعد ممكناً إلا للسجين الذي يدفع ثمن علاجه بنفسه.

أحد السجناء الذي تحدث إلينا يعاني من كتل دهنية حمراء نافرة في رأسه. قال لنا إنه بحاجة لعملية جراحية في الرأس، لن يتمكن من القيام بها إلا إذا أمّن ملايين للمستشفى.

سألته ماذا سيفعل. “لن أفعل شيئاً. أنا كنت معيل العائلة والآن أنا في السجن منذ فترة طويلة. لن أحرم أولادي من القليل الذي يتمكنون من الحصول عليه ليأكلوا، من أجل أن أجري العملية”.

“لا شك أن الوضع الاقتصادي العام ينعكس على السجن. فإذا كنا نحن كقوى امنية نعاني في المستشفيات للحصول على الخدمات الطبية K فما بالك بالسجين الذي كان يعتمد بالكامل على الإدارة لتغطية نفقات علاجه وباتت غير قادرة على ذلك”٬ يقول العقيد ماجد الأيوبي، قائد سرية السجون المركزية.

في هذا الإطار، سألت سجينا عن العلاقة بين السجناء والقوى الأمنية وإذا ما كان السجناء يخبرونهم بالمشاكل التي يعانون منها. فكان الجواب: “الواقع أننا نشكي لهم، فيبكون لنا”، والمقصود هنا أن حال بعض السجناء قد يكون أفضل من حال القوى الأمنية التي كانت في السابق تعتبر أنها وعائلاتها مؤمنة ومضمونه طبياً، لتجد بعد الانهيار أن الحال تغيّر بالكامل.

في السجن أيضاً شكوى من كمية ونوعية الغذاء التي تراجعت أيضاً نتيجة الغلاء الكبير بالأسعار الذي جعل المتعهدين يقتصدون بالكميات وباللحم والدجاج، حتى بعدما رفعت الدولة من قيمة العقود معهم.

السجناء الميسورون نسبياً يشترون طعامهم من حانوت السجن الذي ارتفعت أسعاره تماماً كما الحال في كل المتاجر في البلاد.

في الزنازين يتكدس السجناء فوق بعضهم. حتى عندما عاينّا أحد الممرات وكان السجناء في الزنزانات جالسين على الركبتين لضيق المساحة، مرصوصين الواحد بجانب الآخر، كانوا بالكاد يسعون بين جدرانها.

“انظروا الاكتظاظ، انظروا إلى هذا المشهد!”، قال أحد السجناء وهو يدل على زنزانة يُفترض أن يكون فيها عشرة مساجين كحدّ أقصى، يسكنها اليوم أكثر من ثلاثين شخصاً.

فبحسب معايير حقوق الانسان، يُفترض أن يكون العدد الإجمالي للسجناء في سجن رومية بمبانيه كافة، ألفا وخمسين سجيناً. اليوم، عدد السجناء هناك بحدود أربعة آلاف سجين.

يقرٌ العقيد الأيوبي بأن “حالة الاكتظاظ في السجن تنعكس على كافة أوضاع السجناء، من المنام إلى وضعهم الاقتصادي والصحي وغيره”، ولكن الأمر ليس بيده أو بيد قوى الأمن الداخلي معالجته.

فهناك أسباب متعددة لهذا الاكتظاظ من بينها البطء في المحاكمات. فأغلبية السجناء موقوفون وليسوا محكومين بعد. بعض الذين التقيناهم ينتظرون منذ سنوات البتّ في قضاياهم التي قد تكون عقوباتها القصوى سنوات سجن هي أقل مما قضوه حتى الآن وراء القضبان.

هذا غير السجناء الذين يقضون سنوات طويلة من عمرهم مسجونين ثم يصدر حكم براءة بحقهم.

ثم هناك قضية المحكومين بالمؤبد، غير المحدّد بعدد معيّن من السنوات كما هو الحال في معظم الدول، وبالتالي لا سقف لبقائهم في السجن.

يلتقي السجناء في رواية معاناتهم وفي المطالبة بتحسين ظروف سجنهم وإن كانوا يعلمون أن الوضع العام في البلاد لا يدعو لأي تفاؤل بتحسّن وضعهم الخاص.

حتى أهلهم باتوا، بسبب الغلاء والارتفاع الهائل بأسعار البنزين، يخففون من زياراتهم لهم.

كل ذلك يزيد من احتقان لا يعرف أحد إلى متى يبقى مضبوطاً، كما أن انعكاساته قد تكون خطيرة.

فبحسب المتخصص في شؤون السجون، الدكتور عمر نشابة “إن هذه ظروف تؤدي إلى تعذيب الناس وانتزاع كراماتهم الإنسانية. وهذا يؤدي إلى حالة من الفوضى وحالة من الإحباط الشديد ولا يسمح بتحسّن الأوضاع”.

ويضيف نشابة: “الخطر ليس فقط خلال وجود المساجين في السجن، بل هو يستمر أيضاً بعد خروجهم من هناك مع كمٌ كبير من الحقد والشعور بالمظلومية، وهو ما قد يجعلهم يعادون المجتمع والدولة”.

ما يحدث خلف قضبان السجون غالباً ما يبقى هناك. لكنّ الأزمة اللبنانية جعلت الزنازين تضيق بالمساجين وبحقوقهم الأساسية.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى