العبسي: الرجاء المسيحي يجعل من الأرض جزءاً من السماء

العبسي: الرجاء المسيحي يجعل من الأرض جزءاً من السماء
العبسي: الرجاء المسيحي يجعل من الأرض جزءاً من السماء

أشار بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي إلى أن “بهذه التحية الكنسية التي نعايد بها بعضنا بعضا في تذكار ميلاد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح بالجسد أصافحكم بالرب متمنيا لكل واحد منكم ما حملته إلينا ملائكة السماء من فرح وسلام وراجيا أن تقضوا العيد بطمأنية وراحة بال وتمجيد لله وشكر على عطية الميلاد التي تفوق كل إدراك إذ “كيف العذراء تلد ابنا ولم تعرف رجلا؟ من شاهد قط ميلادا بغير زرع؟” في هذه المناسبة المقدسة أرغب في أن أتأمل معكم في بعض ما يوحي الميلاد به من أفكار وعواطف في هذه الأيام الأليمة التي تمر على الكثيرين منا”.

وتابع رسالة الميلاد بعنوان “ميلاد في الشارع” من المقر البطريركي في الربوة، بعنوان “المسيح ولد فمجدوه”: “يخبرنا الإنجيلي لوقا أن السيدة العذراء ولدت يسوع فقمطته وأضجعته في مذود، إذ لم يكن لهما موضع في النزل. هل كان يسوع وأبواه يوسف ومريم وحدهم من دون سواهم ليس لهم موضع في النزل في تلك الليلة، أو في تلك الأيام، أم لم يجد غيرهم أيضا لهم موضعا في النزل؟ إذا كان أناس آخرون غير يوسف ومريم أتوا إلى بيت لحم، وهي بلدة داود، بلدة شهيرة، ليكتتبوا، لا بد من أن عدد الناس القادمين في تلك الأيام كان كبيرا بحيث لا تسعهم كلهم المنازل والمواضع. فمن المرجح أن البعض منهم قضى أياما في العراء، في الشوارع، وأن البعض الآخر وضع مولوده هناك، في حين أن يوسف ومريم وجدا مكانا ولو متواضعا ومذودا ولو ضيقا أضجعت فيه مريم مولودها ولفته بالقمط. لم يكن يسوع وحده من دون نزل. أطفال آخرون أيضا لم يكن لهم في تلك الأيام نزل، مأوى، وكثيرون آخرون من بين هؤلاء ومن بين غيرهم من مواطنيه، لم يكن عندهم موضع يسندون إليه رأسهم. هل يحصى اليوم عدد الأطفال الذين كان ميلادهم في الشارع تحت جسر أو في حقل تحت شجرة أو في خربة خلف حائط؟ يدعونا يسوع في ذكرى ميلاده إلى أن نوجه فكرنا وقلبنا إلى هؤلاء الذين يولدون في كل يوم وفي كل لحظة في هذه المطارح، من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، في أمكنة أبشع وأزرى من المغارة، ويرمى البعض منهم في حاويات النفايات أو على أبواب المياتم والمآوي والأديار والكنائس، أن نوجه فكرنا وقلبنا إلى أولئك الذين ليس لديهم موضع يسندون إليه رأسهم”.

أضاف: “اعتدنا أن ننظر السيد المسيح مولودا في مذود بمغارة. وفي كل سنة تذكرنا الكنيسة بذلك في صلاة العيد وتدعونا إلى أن ننظر أين يولد المسيح لنرى بأي فقر وتجرد وتواضع كان ميلاده: “هلم أيها المؤمنون لننظر أين يولد المسيح” (سحر عيد الميلاد). في هذا العيد يرغب يسوع في أن لا نكتفي بأن نذهب إلى المغارة لنراه مع يوسف ومريم بل يرغب في أن نذهب إلى الشوارع والحقول والخرب لنرى الذين لا مأوى لهم ولا كساء ولا غذاء، الذين يعانون أكثر مما عانى هو نفسه. على الأقل كان معه أبواه في حين أن كثيرين من الأطفال اليوم لا أب لهم يعرفونه ولا أم لهم يعرفونها، لا أبوين لهم يحضنانهم. ليس يسوع أنانيا بحيث لا يفكر إلا بنفسه ولا يرغب في أن نفكر بأحد سواه. يريد يسوع أن نفكر بإخوته الصغار حتى إنه نسي ألمه وهو على درب الجلجلة تحت الصليب من شدة تفكيره بألمهم وكأن صليبه لم يكن ليقاس بصليبهم: “يا بنات أورشليم لا تبكين علي بل ابكين بالحري على أنفسكن وعلى أولادكن. قد لا يكون أحدنا مسؤولا أو مسؤولا بدرجة كبيرة. ما هم. إنما لا نستطيع نحن أن نهمل هؤلاء الإخوة الصغار ولو كانت المسؤولية تقع على غيرنا. مسؤولية حصول الخطيئة والشر في العالم لم تكن مسؤولية يسوع، ومع ذلك أتى إلى هذا العالم وتجسد وولد وسكن فيما بيننا وحمل الصليب من أجل أن يقضي على الخطيئة وعلى الشر. تضامن يسوع معنا بفعل محبة كبير حتى إنه دعا اسمه “الله معنا”، “عمانوئيل”. هل نتضامن نحن مع إخوته الصغار؟ يخبرنا الإنجيل بأن يوسف ومريم هربا مع يسوع إلى مصر بأمر الملاك خوفا من ظلم هيرودس وبطشه وطلبا للأمان: “قم فخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وأقم هناك حتى أقول لك فإن هيرودس موشك أن يطلب الصبي ليهلكه”. شدت العائلة المقدسة رحالها إلى مصر لكنهم كانوا مطمئنين وعلى يقين بأنهم سيكونون في أمان في الطريق وفي مصر ما دام سفرهم بأمر من الرب ولحماية الطفل يسوع. كم من الناس، أفرادا وعائلات، يهربون اليوم من بلادهم، من الفقر والحرمان والجوع وقلة العمل ومن الظلم والتعسف، إلى بلاد مجهولة لا يدرون ماذا ينتظرهم فيها أو هل يصلون إليها إذ ليس في قلوبهم يقين من أن سفرهم سيكون في أمان. شيوخ ونساء وأطفال وشباب. منهم من يقطع الغابات والجبال والوديان والأنهر في الحر والبرد مشيا على الأقدام ليس معهم ما يسترون به أجسادهم المنهكة أو ما يسدون به رمقهم. ومنهم من يركب البحر يائسا مجازفا وكم زورق أو مركب ابتلعه البحر. لم يشعر يسوع بالخوف والقلق على حياته كما يشعر الناس الذين رموا بأنفسهم غصبا في البحار أو الأدغال. الطفل يسوع عاد إلى بلاده مع أبويه سالما ودله ملاك الرب أين يستطيع أن يقيم بأمان: “قم فخذ الصبي وأمه وامض إلى أرض أسرائيل فقد مات طالبو نفس الصبي”. كم من الشباب والعائلات الفتية تهاجر أو تنزح إلى غير رجعة لأنهم لم يجدوا ملاكا حارسا يقول لهم: “قم خذ الصبي وأمه وارجع إلى أرضك فقد مات طالبو نفس الصبي”. عاش يسوع الغربة عن الوطن أعواما قليلة أما هؤلاء فكل أعوام حياتهم”.

وقال: “نعلم من الإنجيل أن يسوع، لما ولد، وجد من يأبه به، “يلتكش به”، يقدره، يبدي له الاحترام والاهتمام. وجد، عدا أبويه، الرعاة الذين “أقبلوا مسرعين” إليه “في هجعات الليل” (لوقا2: 8: 20). وجد المجوس الذين “من المشرق قد أقبلوا إلى أورشليم  وسجدوا له. ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا من ذهب ولبان ومر”. في حين أن الملائكة في السماء كانت تهلل لمولده. الناس الذين يولدون في الشوارع والحقول من يأبه لهم، من يكترث لهم؟ يجرجرون أنفسهم في البرد والحر، عراة حفاة، نمر بهم وكأننا لا نمر. يوسف ومريم فرحا بالمولود الجديد. الرعاة والمجوس فرحوا عند رؤية يسوع بين يوسف ومريم. لم يصبهم حزن عند رؤيته في مذود ولا خيبة أمل ولا قلق وعادوا من حيث أتوا فرحين مطمئني البال. أما نحن فأي فرح ينتابنا اليوم عند رؤية الأولاد يولدون في الشارع؟ لا، ليس عندنا فرح الرعاة ولا فرح المجوس. إلا أننا بالرغم من ذلك عندنا فرح يسوع الذي تركه لنا في خضم آلامه وأوجاعه وفي مستطاعنا أن نعطي هذا الفرح، بل يطلب يسوع منا أن نعطي هذا الفرح لهؤلاء الناس الذين لم يعرفوا الفرح. نستطيع أن ننقل إليهم الميلاد، أن ننقل إليهم المغارة والمذود، إلى الشارع، إلى حيث هم ليروا يسوع ويفرحوا. “إن كل ما صنعتموه إلى واحد من إخوتي هؤلاء، إلى واحد من الأصاغر فإلي قد صنعتموه” . لتكن زيارتنا ليسوع في المغارة في هذا العام زيارة لهؤلاء في مغارتهم، في الشارع. الميلاد في الشارع. من المؤكد أن يسوع لن يعترض ولا يوسف ولا مريم. على العكس. سوف نرى عندئذ كم نحن سعداء وكم هم سعداء، سوف نعيش ما يبشرنا به الملائكة في كل سنة “إني أبشركم بفرح عظيم”.

وأضاف: “في سحر العيد نترنم بميلاد السيد المسيح قائلين: “اليوم المنزه عن الجسد تجسد طوعا، والكائن قد صار لأجلنا ما لم يكن. وقد شاركنا في طبيعتنا غير منفصل عن جوهره” (صلاة السحر). اتخذ يسوع، لبس يسوع بميلاده من العذراء مريم طبيعتنا البشرية بكل ما فيها ما خلا الخطيئة كما يعلم بولس. ذاق يسوع الفقر والاضطهاد والخوف، ذاق مر الحياة ووجعها وما فيها من أشياء مزعجة، كما ذاق حلوها وجمالها أيضا. لكن يسوع لم يقل إنه تجسد لكي يكون أكثر من الكل ألما وتعاسة ووجعا “وتعتيرا”. وبالفعل ما كان كذلك إذ قد شهد التاريخ في كل فصوله وأماكنه أناسا ذاقوا من هذه الأمور أكثر مما ذاق يسوع. لذلك ليس لب الموضوع أن يسوع كان أكثر أو أقل ألما منا، أو فقرا أو غنى،  أو فرحا أو حزنا، أو خوفا أو يأسا أو أملا أو تفاؤلا. هذه أشياء “ثانوية”، “عرضية”، إن جاز التعبير، تحصل لكل البشر. لب الموضوع والأهم فيه هو مشاركة يسوع لنا في طبيعتنا. تلك المشاركة التي كانت مبادرة حب عظيم منه. تلك المشاركة التي قال يسوع لنا بها، في ما قال: أنتم على الأرض معرضون للفقر والألم والخوف والقلق وما إلى ذلك من تعب الحياة. لن تزول هذه ما دمتم على الأرض ولن أفسر لكم أو أعلل سبب وجودها كما يحاول بعضكم أن يفعل. لكني أشارككم فيها مع وعدي بأنها إلى زوال في يوم من الأيام، حين “يمسح الله عن كل وجه [منكم] كل دمعة”، حين “أراكم من جديد فتفرح قلوبكم وفرحكم هذا لا يقدر أحد أن ينتزعه منكم”، حين أنتصر على آخر عدو لكم وهو الموت. هذا الحين، هذا التحول، تراه الكنيسة منذ الآن وتحيا به إذ ترنم في صلاة العيد قائلة: “إنني أشاهد سرا عجيبا مستغربا. فالمغارة قد أضحت سماء، والبتول عرشا شيروبيميا والمذود محلا شريفا”. لن تبقى مغارة ولا مذود  ولا حزن بل سماء وملكوت وفرح. هذا الحين ننتظره بالرجاء، وبالرجاء على خلاف كل رجاء في أحيان كثيرة. لكن الرجاء المسيحي ليس شيئا افتراضيا وحسب بل عمل يومي الآن وهنا يتداخل فيه الإلهي والبشري، “يتشابك”، كما نقول في لغة اليوم، إذ في يسوع المسيح المتأنس والمولود من مريم اتحدت الطبيعتان الإلهية والبشرية، اتحدت السماء والأرض: “اليوم السماء والأرض اتحدتا بولادة المسيح. اليوم الإله على الأرض ظهر والإنسان إلى السماء صعد” (صلاة الغروب، الطواف). في المسيح يسوع “زال سياج الحائط المتوسط” (صلاة الغروب، من  القديس بولس). فما يحصل على الأرض يحصل في السماء وما يحصل في السماء يحصل على الأرض. لذلك، في الدعوة إلى الفرح، تشمل الكنيسة على الدوام السماء والأرض معا: “لتسر اليوم السماوات والأرض سرورا نبويا. لتعيد الملائكة والبشر تعييدا روحيا” (صلاة الغروب. الطواف)، “اليوم الملائكة أجمع يفرحون في السماء ويبتهجون والخليقة بأسرها تسر بولادة المخلص في بيت لحم” (صلاة الغروب)، “لتبتهج السماوات وتفرح الأرض” (صلاة السحر. نشيد جلسة المزامير). الرجاء المسيحي ينزل من السماء إلى الأرض لينطلق من الأرض وينتهي في السماء. الرجاء المسيحي يجعل من الأرض جزءا من السماء بعملية تحويل مستمرة”.

وختم العبسي: “الى هذه العملية يدعونا السيد المسيح في ذكرى ميلاده. “إن مخلصنا قد افتقدنا من العلى، من مشرق المشارق، نحن الذين كنا في الظل والظلمة، وقد صادفنا نور الحق، لأن الرب قد ولد من البتول” (نشيد الإرسال). لنتابع ونكمل ميلاد المسيح في الزوايا المظلمة لنحولها إلى نور، وفي الزوايا القاتلة لنحولها إلى حياة، وفي الزوايا الحزينة لنحولها إلى فرح، وفي الزوايا التعبة لنحولها إلى راحة” .

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى