وجّه بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان رسالة عيد الميلاد لعام 2022، بعنوان “الله الكلمة يتجسد في عائلة”، تناول فيها الأوضاع العامة في لبنان وبلاد الشرق الأوسط والعالم.
وجاء في نص الرسالة:
“بعد مضي أكثر من ألفي عام على تواضع الرب وتجسده في عائلة ليعلمنا جوهر العائلة وأهميتها كي يعيش أفرادها أواصر المحبة والوداعة والتسامح في ما بينهم، لا تزال عائلات كثيرة وأوطان عديدة تعاني من التمزق والتشرد بسبب الحروب العبثية والصراعات والفساد، حيث كرامة الإنسان وحقوقه المدنية والدينية مغيبة، مما ساهم في ازدياد هجرة أبنائنا وبناتنا الذين أرغموا على ترك أرض آبائهم وأجدادهم في الشرق، فتشتتت عائلاتنا في أصقاع المعمورة كلها.
في لبنان، وكأنما التاريخ يعيد نفسه عند كل استحقاق يتعلق بانتخابات رئاسة الجمهورية، وهي الموقع الأول والوحيد للمسيحيين في العالم العربي برمته، إذ يتكرّر تعطيل انتخاب الرئيس تحت حجج ومبررات واهية وغير مقنعة، ولا تزال تسبب مزيداً من الدمار في هيكلية الدولة، وإضعافا للمؤسسات، وإحباطاً لثقة المواطنين، لا سيما فئة الشباب.
كنا قد شجعنا أولادنا واللبنانيين عامة على المشاركة في الانتخابات النيابية والمساهمة في تغيير الطبقة الحاكمة بغية النهوض بالبلاد، ونبهنا من مغبة عدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية في المواعيد الدستورية. غير أن الطبقة السياسية ذاتها التي عطلت الإنتخاب سابقا تعاود الكرة اليوم، طمعاً بالتسلط وإقصاء للصوت المسيحي ذي الوطنية الحقة. هذه الفئة المتسلطة هي غير آبهة بعذابات المواطنين ومآسيهم، ولا بالأزمة الاقتصادية المخيفة، ولا بالتدهور الجنوني في سعر صرف الليرة اللبنانية، فضلاً عن استمرار حجز أموال المودعين في المصارف، وتعدد أسعار صرف الليرة قياسا بالعملات الأجنبية، من دون أي بوادر حل يلوح في الأفق لانتهاء هذه الأزمة مع كل تداعياتها الاجتماعية والسياسية والتربوية.
فلبنان، أمس الحضارة، لبنان المدرسة والجامعة والمستشفى، بات اليوم لبنان الظلام والفقر والهجرة، مهدداً بوجوده. وإن لم يرعو الذين يتولون المسؤولية فيه ويتوقفوا عن تعطيل الحياة السياسية وعن حماية الفاسدين والسارقين، فسيحاسبهم شعبهم بجرم الخيانة العظمى، وسينبذهم التاريخ.
ولا ننسى المطالبة المستمرة بوجوب التوقف عن تعطيل التحقيقات القضائية النزيهة في تفجير مرفأ بيروت الإجرامي، والمباشرة بمحاكمة المرتكبين ومحاسبتهم، كائنا من كانوا، لأنهم فجروا مدينة وقتلوا شعبها ودمروا إرثها الحضاري والثقافي.
إننا نضرع إلى الرب كي يقيم هذا البلد من كبوته، ونجدد مطالبتنا بوجوب انتخاب رئيس للجمهورية يتحلى بالمناقبية، وحس المسؤولية الوطنية، وجرأة اتخاذ القرار. فيتولى إدارة شؤون البلاد، وينتشلها من وهدة الفساد الذي يتآكلها، ومن قعر الأزمات التي تتخبط بها. فتعود الثقة بالدولة والمؤسسات إلى اللبنانيين وإلى أصدقاء لبنان عربيا ودوليا.
وسوريا التي لا تزال تعاني، جراء العنف والفوضى والعقوبات الجائرة على شعبها المنهك، أوضاعا مخيفة من التدهور الإقتصادي الحاد، وازدياد الهجرة بين صفوف الفئات الشابة، تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى تضامن ذوي الإرادة الصالحة كي يحل الأمن والسلام ويعود الاستقرار إلى ربوعها كافة. إلى الرب نتضرع كي يحمي هذا البلد الحبيب، ويعضد جميع المواطنين، فيعملوا سويا من أجل النهوض بوطنهم من جديد وإعادة بنائه.
والعراق، الذي تضع حكومته الجديدة في سلم أولوياتها مكافحة الفساد والمحسوبيات، وإعادة الإعمار، وتلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية للموطنين. من أجله نرفع إلى الرب صلاتنا كي تتمكن هذه الحكومة من القيام بمهامها، بما يسهم في تقدم هذا البلد العزيز الذي عانى من الحروب والنزاعات والدمار خلال العقود الثلاثة المنصرمة، وذلك بتضافر جهود جميع المواطنين، فيعود بلد الرافدين إلى سابق عهده من التطور والازدهار.
وتركيا، التي قمنا أخيراً بزيارة حج فيها، شوقا إلى أرض آبائنا وأجدادنا، نبارك غيرة أولادنا وجهودهم في ترميم دير مار أفرام في ماردين، ومساعيهم كي نستعيد مقر بطريركيتنا هناك، شهادة على حضورنا السرياني التاريخي في هذه البقعة الغالية من العالم. كما نسأل الله أن يمن على جميع المواطنين بنعمة العيش الكريم في حقوق المواطنة الكاملة، كما أكدها لنا رئيس البلاد لدى لقائنا التاريخي معه في العاصمة أنقرة.
والأراضي المقدسة، حيث لا تزال أعمال العنف تندلع بين الحين والآخر، ندعو إلى إحلال السلام والأمان في هذه الأرض التي تباركت بميلاد الرب يسوع وإعلانه تدبيره الخلاصي فيها.
ومصر، والأردن، وبلدان الخليج العربي، التي نعرب عن ارتياحنا لما تقوم به السلطات في هذه البلدان العزيزة لتأمين الرخاء والازدهار للشعب، في جو من الألفة والمودة والتسامح.
ونتوجّه إلى أبنائنا وبناتنا في بلاد الانتشار، في أوروبا والأميركيتين وأستراليا، ونشجعهم على محبة أوطانهم الجديدة، والسعي الجاد إلى تربية أولادهم، والحفاظ على وحدة عائلاتهم، رغم المخاطر والتحديات الجمة. كما نذكرهم بضرورة المحافظة على الأمانة لبلدانهم الأم في الشرق، ثابتين في الإيمان بالرب يسوع، وملتزمين بكنيستهم وبتقاليدهم الأصيلة وبتراثهم السرياني الثمين. فيبقى حضورنا شهادة مشعة وسط عالمنا المضطرب.
وإننا نحثهم على القيام بما يمكنهم من أعمال ومبادرات محبة يمليها عليهم حسهم الأخوي وانتماؤهم العائلي والكنسي، فيساهموا قدر استطاعتهم في دعم الكنيسة والمؤمنين في بلاد الشرق، حيث تكبر المعاناة، وتتفاقم التحديات، وتزداد الحاجات المادية، متذكرين ما جاء في سفر أعمال الرسل: “فعزم التلاميذ أن يرسلوا حسبما يتيسر لكل واحد منهم، إسعافا للإخوة المقيمين في اليهودية” (أعمال 11: 29).
كما يهمنا أن نشيد باعتزاز باللقاء التاريخي الذي شاركنا فيه، في السادس عشر من كانون الأول الجاري، في المقر البطريركي للسريان الأرثوذكس في العطشانة – المتن، لبنان، وجمع بطاركة الكنائس ذات التراث السرياني: السريان الكاثوليك والسريان الأرثوذكس والموارنة والكلدان والمشرق الآشوريون. لقد كان حقا لقاء غنيا، أكدنا فيه على أصالة الروحانية السريانية، وأهمية الحضور السرياني في الشرق الأوسط وبلاد الانتشار، والشراكة في الشهادة، وغنى التراث السرياني المشترك، وضرورة إيلاء عناية خاصة بتعليم اللغة السريانية ونشرها والتعمق بدراستها، وتعزيز التعاون، وإقامة المؤتمرات والندوات التي تبرز هذا التراث العريق. واتفقنا على المضي قدما في هذا اللقاء بشكل سنوي.
وفي هذا الزمن الميلادي، وفيما نجد العالم من حولنا يتخبط في الحروب والنزاعات، يؤكد قداسة البابا فرنسيس في رسالته السنوية بمناسبة اليوم العالمي السادس والخمسين للسلام، بعنوان: “لا أحد يمكنه أن يخلص بمفرده، الإنطلاق مجددا من فيروس كورونا لكي نرسم معا دروب سلام”، على أن: “وحده السلام الذي يولد من الحب الأخوي والمتجرد يمكنه أن يساعدنا في التغلب على الأزمات الشخصية والاجتماعية والعالمية… أتمنى أن نتمكن في العام الجديد من أن نسير معا ونكتنز مما يمكن للتاريخ أن يعلمنا إياه… أتمنى لجميع الرجال والنساء ذوي الإرادة الصالحة أن يبنوا يوما بعد يوم، كصانعي سلام، سنة جديدة”.
وبهذه المناسبة، نجدّد صلاتنا بحرارة إلى طفل بيت لحم الإلهي كي تتوقف الحرب المستعرة بين أوكرانيا وروسيا، فيحل السلام والأمان، وتعود الألفة بين البلدين الجارين، ويسعى الشعبان إلى مصالحة مبنية على الحق والمسامحة، إذ يكفي عالمنا المزيد من الحروب وأعمال العنف والتدمير.
كما نجدد مطالبتنا بالإفراج عن جميع المخطوفين، من أساقفة وكهنة وعلمانيين، سائلين الله أن يرحم الشهداء، ويمن على الجرحى والمصابين بالشفاء التام. ونعرب عن مشاركتنا وتضامننا مع آلام ومعاناة المعوزين والمهمشين والمستضعفين، وكل العائلات التي يغيب عنها فرح العيد بسبب فقدان أحد أفرادها، ضارعين إلى الله أن يفيض عليهم نعمه وبركاته وتعزياته السماوية”.
وأشار الى “مخطط الله الخلاصي بالتجسد والولادة في عائلة، إذ انه تأنس كي يهبنا الحياة الجديدة، وحل في عائلة كي يقدس العائلة”، منوّها بـ”الأسس الأولية للعائلة المسيحية”، لافتاً إلى أن “الميلاد هو زمن الرجاء والسلام وعيد الفرح”، مشدداً على أن “يسوع المسيح هو رجاؤنا الأزلي”. وهنأ المسيحيين والعالم بعيد الميلاد المجيد وبحلول العام الجديد.