على الرغم من أنه شاهد مظاهر الإصابة بالطاعون، والتي كانت غاية في القسوة والعنف، بحسب ما نقله هو سواء في شعره، أو ما تركه في رسالة، أوضح فيها حجم الإصابة المرعب بالطاعون، إلا أن الشاعر ابن الوردي، عمر بن مظفر المعرّي المتوفى سنة 749 للهجرة، تحدى الطاعون، علناً، في قصيدة من بيتين فقط، أجمع من تناول حياته وترجم شعره ومصنفاته، على أنه مات بعدها، بيومين، مصاباً بالطاعون الذي سبق وتحداه، قبل 48 ساعة من وفاته، وكانا آخر بيتين شعريين له. وفي ديوانه، قال ابن الوردي متحدياً الطاعون:
ولستُ أخاف طاعوناً كغيري
فما هو غير إحدى الحسنيينِ
فإن متُّ، استرحتُ من الأعادي
وإن عشتُ، اشتفتْ أذني وعيني
وأعلن ابن الوردي متحدياً، عدم خوفه من الطاعون، في الوقت الذي رأت عيناه كل مشاهد هذا الوباء الذي ضرب الديار الشامية ومصر سنة 749هـ، بل إن متحدي الطاعون المتوفى به، كان ترك رسالة بهذا الوباء، نقل فيها بعض الصور العنيفة الناتجة من الإصابة، ووضع لها هذا الاسم: "رسالة النبا عن الوبا".
وباء 15 سنة متواصلة
ويشار إلى أن رسالة ابن الوردي في الطاعون، والتي تنتمي إلى أدب المقامات، أيضا، تعد بحسب المحققين والمؤرخين، وثيقة عن مظاهر الطاعون وأشكال الإصابة به، في تلك المرحلة، كما أنها تعد تصويراً دقيقاً لما مرت به المنطقة، بعدما طُعنت بالطاعون، حيث أكد ابن الوردي، في رسالته، أن الطاعون ضربها 15 سنة متواصلة، وهي مدة وباء، يمكن لها أن تفني شعوبا بأكملها، وهو تعبير استعمله الإخباريون العرب، عن طواعين الشام وما تركته بأهلها الذين كادوا يفنون، بسببه.
وقال ابن الوردي في رسالته عن الطاعون، إنه "زائر" منذ 15 سنة، متحدثاً عن الصين التي لم تتمكن من "صون" نفسها منه، وكذلك الهند، وبلاد الأوزبك، وأرض القرم، وقبرص، والقاهرة، والجزائر، والإسكندرية المصرية التي قال فيها بعدما طعنت:
اسكندرية، ذا الوبا
سَبعٌ يمدّ إليك ضَبعهْ
صبراً لقسمته التي تركت
من السبعين سبعهْ!
أكثر من 1000 وفاة بالطاعون يوميا
وقال إن دمشق في ذلك الطاعون، كانت تخسر كل يوم أكثر من ألف من أبنائها، واستخدم تعبيرا عن الطاعون بأنه "أقلَّ الكثرة" لما حصده من أرواح بشر في دمشق. وبتتبع خط رسالة ابن الوردي في الطاعون، فلم تخل منه مدينة كبرى من فلسطين إلى أقصى الشمال السوري وصولا إلى أرض التّرك، مرورا بمدن وسط سوريا، كحمص وحماة.
وصوّر ابن الوردي أحد مظاهر الإصابة بالطاعون، كبصق الدم من فم المصاب، بحسب ما رواه، وشبّه ذلك كما لو أنه العدم ذاته، فيقول: "ومن الأقدار أنه يتتبع الدار، فمتى بصق الواحد منهم دماً، تحقق كلهم عدماً، ثم يسكن الباقين الأجداث، بعد ليلتين أو ثلاث" ويختصر ذلك في بيتين:
سألتُ بارئ النسم في دفع طاعون صدم
فمن أحسّ بلع دم فقد أحسّ بالعدم!
ويستفاد من رسالة ابن الوردي في الطاعون، من عرضه للطريقة التي كان يتداوى بها المطعونون في تلك المرحلة، ويقول إن أعيان أهل حلب، كانوا يطالعون ما تيسر من كتب الطب التي كانت موجودة في ذلك الوقت. ويقول إن الأعيان كانوا يكثرون من أكل النواشف والحوامض، كنوع من العلاج، وقاموا باستعمال الخل والبصل، كمواد تعقيم. ويشار إلى أنهم قللوا في طعامهم من المرَق ومن الفاكهة أيضاً.
كثرة مفزعة للنعوش
تصلح رسالة ابن الوردي، لكتابة مرثاة بشرية عارمة، فهو ينقل صور الجثث وحجمها المهول، بعدما طعن الطاعون المنطقة، ويقول إنك لو شاهدت كثرة النعوش لفررت من المكان، إلا أن المؤلف، تحداه، رغم ذلك، ومات به.
يقول ابن الوردي: "ولو شاهدتَ كثرة النعوش وحملة الموتى، لوليت منهم فراراً". ولكثرة النعوش وعدد الموتى، فقد أثرى العاملون بالجنائز أيما إثراء، على ما يبدو من رسالته: "فلقد كثرت فيها أرزاق الجنائزية!" ولكثرة النعوش التي زادت في رزق الجنائزية، فقد وصلوا إلى نوع من الإشباع، فلم يعودوا يكترثون بالزبائن: "فهم يلهون ويلعبون، ويتقاعدون عن الزبون" وفي كل هذا قال:
اسودّت الشهباءُ في عينيَّ من رمم وغش
كادت بنو نعش بها أن يلحقوا ببنات نعش!
ولاحتمال التعرض للإصابة بالطاعون، بسبب كثرة ضحاياه وطول مدة مكثه التي كانت 15 عاما كما قال، فقد أصبح الناس، يلجأون مسبقاً، إلى كتابة وصاياهم بالميراث وغيره، والبعض سلفا يودّع جيرانه، ويذهب البعض الآخر للتصالح مع عدو له أو خصم، وآخرون يتوسعون في الإنفاق، فيما قام بعض الأعيان بتحرير غلمانهم، بل إن بعض التجار زاد في دقة ميزانه، ثم ينتهي قائلا:
ألا إن هذا الوبا قد سبا
وقد كان يرسل طوفانه
فلا عاصم اليوم من أمره
سوى رحمة الله سبحانه
ومما جاء في خاتمة رسالته في الطاعون: "اللهمّ إنّا ندعوك بأفضل ما دعاك به الداعون، أن ترفع عنّا الوباء والطاعون".