كثير من الكلمات العربية التي يتم إدراجها، بين هلالين في الكتب أو على ورق الصحف والمواقع الإلكترونية، للإشارة بأنها عامّية، لا تكون في الواقع سوى من الكلمات الفصحى، إلا أن غلبة استعمالها الدارج، وندرة استعمالها في نصوص فصيحة، أو تحولها إلى مهجور، أوهم البعض بأنها من الشفويات العامية المحسوبة لحْناً، فيما هي في قلب المفردات الفصيحة. ومن ذلك، كلمة "الهوبرة" التي تستعمل في لبنان والشام، عموما، وظلمت بحبسها بين قوسين، كما لو أنها دخيلة على العربي الفصيح، فيما هي من قلبه.
يلجأ البعض إلى وضع كلمة الهوبرة بين هلالين، ويقصد منها معنى التهديد الفارغ المضمون، أو ادعاء التهديد والتضخم به، وتكون الدلالة بأن المهدِّد مدّعٍ أو يبالغ في تصوير مقدرته لتخويف خصمه بقوى وهْمية لا وجود لها. كل هذا في معنى كلمة الهوبرة. وهي كلمة فصيحة، كتابة ولفظاً وذات منشأ دلالي ينسجم مع استعمالها الدارج والمعنى المراد إصابته.
وأفردت أمهات العربية، لكلمة الهوبرة مكاناً، بدءاً من الهَبرة التي هي قطعة من اللحم، وهَبَر له، هَبرةً، أي قطع له قطعة من اللحم، ويقال الهابِرُ على قاطع من اللحم. يوضح تاج العروس.
وتتوسّع الكلمة، شيئا فشيئاً، لتقترب من أصل استعمالها المجازي معنىً، الآن، واللغوي بناءً، لفظاً وكتابة، فيقال ريحٌ هُبارية هوجاء، أي ذات غُبار. ويبدو أن منشأ الكلمة المتّصل بالقطع، منها هبر اللحم، قطعه، أدخلها في معنى التفتت الذي أفضى إلى ذرات الغبار، قادها لتكون اسماً لما يتناثر من حبيبات الزرع، فيقال الهبُّور، كما تلفظ التنّور، وهو دُقاق الزرع، إلا أن واضعي الأمهات، يحيلون هذا الاستعمال الأخير، إلى اللغة النبطية حصراً.
والأصل العربي الصافي للكلمة التي أشير إلى بعض استعمالاتها في النبطية، يدعم معناها الذي لا يزال محافظاً على التفتت والقطع، فيقال الهِبرية، وهو ما يتناثر من القصب والبرديّ. فهَبَر، هي قَطَع، والقطع هنا، ينتقل إلى اسم المنقطع ذاته، فيسمَّى الهِبِرّ.
لكن الهبر الذي منه قطع اللحم، يفيد معنى الإكثار من الشيء، فيقال للجَمَل، هَبِرٌ، إذا كان كثير اللحم، وللناقة هَبرة، ومُهَوبِرة، يقول القاموس المحيط، وهو أول أصل مباشر، في اللفظ والكتابة، لكلمة الهوبرة المشار إليها. في حين، هبرَ، لا زالت في معنى القطع والتناثر المؤديين إلى معنى التضخم في كلمة الهوبرة الحالية المجازية، فيقول القاموس المحيط، إن الهبرية هو ما طار من زغب القطن وما طار من الريش!
وهل هناك من معنى أقرب من الأخير، ليعطي معنى الهوبرة الحالية؟ ومنه ما تسبب بإطلاق اسم الهوبر على الفهد أو جرو الفهد، ولأنها تقال على جرو الفهد، كما يؤكد القاموس المحيط، فإن الهوبر القصد منه اعتباط في الحركة، أو ما لا يتّسق منها.
وتعلمنا أمهات العربية، أن الهوبر هو القرد الكثير الشَّعر، ومنه الأذن المهوبرة، أي كثيرة الشعر. وإذا كثر شعر الأذن، يقال هَوبَرت، يؤكد التاج. فإن الأذن هوبرت، فإن فلان هَوبرَ، وهي الهَوبرة. وينقل الزبيدي عن أبي عبيدة: من آذان الخيل، مهوبَرَةٌ، وهي التي يحشى جوفها وبراً وفيها شَعرٌ. ويؤكد أقدم قواميس العربية، كتاب العين، أن الهبرة من اللحم، لا عظم فيها، وأن هَوبَر، هو اسم رجل.
ويقول ابن فارس في مقاييس اللغة، إن الهوبر تقال لمن تقطّع شَعره، قطعاً. أما لسان العرب، فيقول إن الهبارية ما تعلق بأسفل الشعر من وسخ الرأس، ويستعمل فعل هوبرت أذنه، والذي استعمله ابن سيده في (المحكم) بذات المعاني، إنما أضاف مدلولات الكلمة، عندما يتم قلب حروفها، وهو أساس كتابه الذي قال عنه صاحب لسان العرب، إنه لم يجد "أكمل" منه، فنجد هبر وهرب ورهب وبهر وبرهة! وفي هذا كله، ما يتصل بمعنى القطع أو الاعتباط في الحركة. ومنه يتحدث صاحب "أكمل" معجم، برأي الفيروز آبادي، عن الناقة المُهوبِرَة، بالكسر، لا المهوبرة، بالفتح، فقط. وهو ما يلفظ الآن، بالعامية، وباللفظ، عندما يقال عن فلان، إنه يهوبِر، بالكسر. ما يؤكد أن الهلالين اللذين يحبسان الكلمة، يجب أن يزالا، على وجه السرعة.
فالناقة تُهوبِر، والناتج هوبرةٌ. ويشار إلى أن أغلب الكتب المعنية بإعادة العامّي إلى أصله الفصيح، لم تشر إلى الهوبرة كواحدة من تلك الكلمات، ذلك أن الفعل والاسم والمصدر، بالكتابة واللفظ، حاضر في العربية، كما أشارت الأمهات. ولذلك فالهوبرة، والقادمة من تطاير الغبار وذرات القطن وما يعلق بالشَّعر، منضمة إلى أصلها في القطع، تعطي المعنى المراد في شكلها الحالي، وهو المبالغة بالإيحاء على القيام بفعل، يكون صاحبه يزعم زعماً ويوهم إيهاماً بما لا أصل له، ولهذا، فليس من المصادفة أن يقول الفيروز آبادي، إن الهبرية، هي ما طار من زغب القطن أو الريش!