هل "يعود" مع "الموتى" أيضاً؟.. رحيل هارولد بلوم

أعلن، الاثنين، عن وفاة الناقد الأميركي، هارولد بلوم، عن عمر يناهز الـ 89 عاماً، إثر تدهور في حالته الصحية، بحسب ما نقلت صحيفة الغارديان البريطانية، في خبر لها عن الناقد المشهور والذي وصف بأنه أحد أهم النقاد في النصف الثاني من القرن العشرين.

وكان بلوم، يمارس نشاطه الاعتيادي في القراءة والتأليف، حتى قبل أسبوع من دخول المستشفى وإعلان وفاته، بحسب ما قالته زوجته (جين) للصحيفة السابق ذكرها، والتي وصفت الناقد بأنه مؤلف مشهور.

وضع بلوم أكثر من عشرين كتاباً، غالبيتها في النقد الأدبي، إلا أن كتابه (قلق التأثّر) كان العلامة الفارقة في إرث هذا الرجل، حيث لا يزال الكتاب مصدر جدل وإلهام للنقاد والأدباء والشعراء، في آن واحد معاً، على الرغم من صدوره عام 1973، للمرة الأولى، بطبعته الإنجليزية، ثم نقل إلى العربية، نهاية تسعينيات القرن، بترجمة الشاعر والأستاذ الجامعي عابد إسماعيل.

يتعامل مع ألف صفحة بذات الوقت!

المصادر الغربية، تصف (قلق التأثر) بالإرث الأعظم لبلوم، ويوصف بالكتاب الخارق، وهي الصفات ذاتها التي أطلقها نقاد عرب وأدباء وقراء، على هذا الكتاب.

ولد هارولد بلوم، عام 1930، في نيويورك، لعائلة من المهاجرين اليهود الأرثوذكس الرّوس، وكان الولد الأصغر في أسرته، إلا أنه كان يتمتع بشغف جارف للأدب، وأعلن عن نفسه، كما كان يعلن نقاد عرب قدامى، بمدى ما يحفظونه من شعر، حيث تباهى مرة في شبابه، بأنه قادر على التعامل مع 1000 صفحة، في آن واحد معاً.

تخرج بلوم في جامعة (كورنيل) عام 1951، وحصل على شهادة الدكتوراه، من جامعة (ييل) عام 1955، وبعد نيله الدكتوراه، بثلاث سنوات، تزوّج بـ(جين جولد) التي أنجب منها، ولدين اثنين.

ومنذ أواسط خمسينيات القرن الماضي، لفت بلوم الأنظار إليه، إذ كان صاحب آراء وصفت ما بين الجدلية والمحيّرة أو المباغتة التي فوجئ بها الوسط الأكاديمي، خاصة عندما يعلن عن آرائه الشخصية الرافضة لنيل هذا أو ذاك، جائزة نوبل في الآداب، أو حتى جائزة الكتاب الوطنية.

قلق التأثر

كتب بلوم الكثيرة، لم يكن أي واحد منها، بشهرة (قلق التأثر) ومنذ أعلن عن وفاته، سُلط الضوء على اسم هذا الكتاب، عند كل من نعاه، ذلك أن الكتاب الموصوف بـ"الخارق" ترك أثراً عميقاً ممتداً في الزمن، في نظرية الأدب كلها، لا في الشعر وحده بل بعموم مصنفات الأدب، نظراً لما تتضمنه من معايير جديدة وجذرية، وفي الوقت ذاته، تمتاز بالسهولة والعمق والشمولية.

شهرة (قلق التأثر) وسط عشرين كتاباً للمؤلف، وأثره الممتد في الأجيال اللاحقة، نابعة من كونه أرسى دعائم عقلية نقدية جديدة، تقوم على افتراض نشاط خفي، ما بين الأب والابن الأدبيّين، حيث تظهِر العلاقة بينهما، نوعية من الرفض أو المقاومة أو التكتّم، ثم التنقيح وإعادة إنتاج النص، كناتج حرب تأثُّرٍ مفتوحة، ما بين المبدع الجديد والمبدع القديم، تستقر في ما يسميه: "عودة الموتى" وهي المرحلة الأخيرة من قلق التأثر العدائي أو الحميم، عندما يقوم (الجديد) بما يشبه إعادة تكوين للقديم، ما يجعل من نص الابن، كتابة ذاتية لنص الأب، إنما بعد عمليات بلغت خمساً، حددها الناقد الراحل وتحدث عنها بالتفصيل.

تبدأ العلاقة أو العمليات التي يقوم بها الابن، أو النص الجديد، بـ"الانحراف الشعري" حيث يقوم النص الجديد، بالتأثر بالقديم، ثم يقوم بنقلة الانحراف عنه الأصل، ليكتشف ذاته، عبر حركة تكتّم، يخفي فيها، أثر النص الأصلي الأول.

ماذا نفعل بإرث الأسلاف؟

في المرحلة الثانية، يعيش النص الجديد، وهْم الإضافة على النص القديم، فيما هو متأرجح بين الاتصال والانفصال عن النموذج الأول. لتأتي الثالثة، بالقطيعة والنسيان، ثم الرابعة، بالارتقاء المضاد.

في المرحلة ما قبل الأخيرة، يعيش الابن حالة من التخلّص من إرث الأسلاف، مدعياً فرادته المنفصلة عن أي أثر لهم، مع أنه يعيدهم، في نصّه، وهنا يكون تمجيد الذات في أعلى مراحله، كونه يقوم على افتراض أن لا أسلاف له، فيما هو في الواقع، خاض أكثر من عملية "تنقيح" أو "قراءة ضالة" لهؤلاء الذين تم تغييبهم عمداً، في المرحلة الخامسة من قلق التأثر، إلا أن ظهورهم الوشيك، يقترب من لحظاته الأخيرة، فالحي يقترب من اكتساب أدوات الميت، في عملية تنقيح ذات طابع شعوري ولا شعوري، ستنتج نصاً هجيناً، إنما بإرادته، حيث اكتشف هو، أسلافه، وهو نفسه من يعيد تكوينهم، بعد مراحل من تأثيرهم اللامنظور، فيه.

الموتى يعودون بعدما يعيد الأحياءُ تنقيحهم!

أخيراً، يعود الموتى. يتقصد بلوم استعمال هذا التعبير "عودة الموتى" وهو تعبير قديم للغاية، من عصور ما قبل الديانات السماوية، ولا يزال مستعملاً في عدد من القبائل الوثنية، وهو جزء من فولكلور عام.

لكن "عودة الموتى" عند بلوم، ليست من أصناف الزومبي الحاقدة المنتقمة، بل هي مجرد انتهاء عملية "التأثر" التي اختبرها نص الابن الشاعر "القوي" على نص الأب، بعدما مرّ بعمليات من الإنكار والحذف والتعديلات الجزئية، لتكون عودتهم، تعني اختراعاً أو إعادة صناعة أو صياغة جديدة، للأسلاف الشِّعريين.

شكل قلق التأثر موجات متتابعة في نظرية الأدب، في القرن الماضي، حيث هي الدراسة الأولى الممنهجة التي توضح طبيعة ما يمكن أن تكونه العلاقة ما بين القديم والجديد، والآليات الشعورية والخبرات اللغوية التي تجعل من نص ما، جديداً، في الوقت الذي هو فيه، معيد صياغة لا تعني في نهاية المطاف، أنها عمليات تطابق لا مشروط للابن بالأب، بل ابتكار الابن لأبيه، بعد مستويات قراءة وتنقيحات وإنكار مؤقت، ينتهي جميعه بعودة مظفّرة للنموذج الأول، إنما بعواطف ولغة النموذج الثاني.

تأثير بلوم، تم رصده عالميا، بدءا من أول سبعينيات القرن الماضي، بقلق التأثر المذكور، وأثرى قاعات الجامعات العالمية بنقاشات معمقة، وترك أثره بالنقاد المعاصرين والقراء، على آلية مصطلح "عودة الموتى" الذي اجترحه، وبالمصطلح ذاته، فإن بلوم "يعود" كميت، كنموذج أبوي أول، بعد عمليات تنقيح وإنكار وتطهّر، في الوعي الأدبي العالمي.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى