حروف عربية، لو وردت، معاً، في فواتح أبنية الكلام، ولو في كلمات مختلفة، فإنها تتضمن المعنى ذاته، أو تتضمن الإطار العام للدلالة. وتلك ظاهرة، على الرغم مما تضمنه من لغز، في اللغة جاءت من أساس ألسني، يرتبط بنطق الحرف ومكانه في الآلة التي لفظته، وهي الحلق والفم وما يجري فيهما، والأثر المعنوي الذي يحدثه الحرف، حسب مكانه في الكلمة، ثم حسب مكانه في الآلة التي لفظتْه.
والجماليات التي يعتبرها بعض الدارسين لغزاً ألسنياً، تسمح لحرفين عربيين متواليين يأتيان معا في كلمة، أن يعطيا المعنى ذاته، في كلمات مختلفة أخرى، ويسيطرا دلالياً، على بقية الحروف كما لو أنها لا وجود لها إلا لتؤكد معنى الحرفين المتواليين. وهي ميزة لا تتوفر في حروف غير قابلة للاجتماع معاً، في كلمة عربية أصيلة، كحرفي الجيم والصاد اللذين يعني وجودهما، في أي كلمة، أنها غير عربية، بل بين المعرّبة والدخيلة.
اجتماع حروف معينة، لتوليد دلالة موحّدة، ليس مجرد روائع في العربية، وحسب، بل هو أحد المعايير التي من خلالها، يتم معرفة الروابط بين كلمات اعتقِد أنها من المترادفات، فيما هي ليست من الترادف، إذا ما تم إدراجها في حروفها الأساسية المكونة لها.
النون والباء.. ارتفاع وإخراج
حرفا النون والباء، لو وردا في أوائل الأبنية، يعطيان معنى الارتفاع والإخراج، من مثل: نبرَ التي خرج منها كلمة المنبر للعلو والارتفاع، ونبشَ الدالة على إخراج الشيء، ونبسَ التي من إبراز الكلام وخروجه، ونبطَ تفيد بالاستخراج، واستنبطت الماء استخرجته، ومنها الاستنباط التي تستعمل بمعنى الوقوع على فهم أمر عميق، ونبع بمعنى خروج الماء وحركته، ونبغَ لمعنى الظهور والارتفاع، وكانت العرب تسمّي ما يتطاير من طحن الدقيق، بالنَّبْغ، وفي ذات المعنى نبذَ بمعنى الطرح وإخراج الشيء.
هكذا يكون أغلب ما بدئ بنون وباء، في أبنية الكلام العربي، دالاً على وحدة عامة في معنى الإخراج والارتفاع، ومنها نَبَثَ الترابَ، أخرجه!
الكاف والميم.. استتار وسكون
وكذلك في حرفي الكاف والميم، فيحصل معنى الاستتار والسكون، مثل كمرَ، وكمن، وكمشَ، وكمل، وكمعَ التي تعني البيت والمسكن، والكمع المطمئن من الأرض، وإن ولد الإنسان ضريرا، فهو الكمه. ومنه كميَ، المتضمنة معنى الخفاء، وكتلة التمر تسمى كمزة.
حرفا الدال واللام، يعطيان، معاً، معنى الدخول والانتقال دون جلبة، مثل دلف، ودلجَ، ودلسَ، ودلع، ودلع تعني الخروج، منها إخراج اللسان، والدلع للمرأة مثل ما الدلع هو الأرض السهلة. ودلقَ، ودَلكَ التي تتضمن التحريك والرفق.
ويوجد معنى الشدة والاحتدام، لو تكرر في فواتح الأبنية، حرفا الضاد والراء، كالضرر، والضرس، والضرم والضرام، والضرح والضريح، والضرح الرّمي بالشيء، والضرب، والضرج (تضرجّ بالدم).
الصاد والدال.. مشقة وافتراق
حرفا الصاد والدال، في أوائل أبنية الكلام العربي، يؤديان دائماً إلى مشقة وافتراق، مثل: صدّ، صدر، صدم، صدع، صدغ، صدف، صدأ، صدى، وصدحَ التي ليس من الغريب أن يكون منها اسم صوت الغراب! فالعرب تقول: صدح الغراب، وهو طير شؤم عندهم، قبل الإسلام. ولا يستثنى من ذلك، حتى كلمة الصداقة والصدق، فالصَّدق، بالفتح، في الأصل، هي الصلابة، وكان يقال رمح صَدْق. والصداق للمرأة، سمّي بذلك لقوّته، يوضح ابن فارس في معجمه المقاييس. فيما الصديق والصداقة والتصدّق، هي من وجوه كل ذلك.
حرفا الجيم والميم، لو وردا معا، أوائل أبنية الكلام، فيعطيان معنى القوة والكمون، كما في جمحَ وجمدَ وجمر وجمل وجمع وجمس (من الجمود) وجمش وفيها القطع واليباس.
الكاف والراء، يعطيان معنى المدافعة والاضطراد، كرّ، كرب، كره، كرث (من المشقة)، كردَ (من المدافعة)، وكرسَ التي اشتقت منها الكرّاسة لأنها ورق بعضه فوق بعض، والكرم براء ساكنة، تقال للعنب المنظوم المضطرد.
ويأتي معنى العدول والمنع والتشديد، في حرفي الحاء والراء، في حرب، وحرد، وحرز، وحرف، وحرم، وحرض، وحرس، وحرص، وحرن، وحرك، وحرق.
النون والهاء.. بلاء وظفر
في النون والهاء، يجتمع معهما، البلاء والظفَر، في نهمَ، ونهبَ، ونهرَ، ونهشَ، ونهجَ، ونهكَ، ونهزَ ومنها انتهاز الفرصة، ونهسَ (انتزاع للحم)، ونهط (طعن)، ونهض، ونهدَ.
الراء والغين.. سعة ونموّ
الراء والغين، في فواتح أبنية الكلام العربي، دائما تحملان معنى السعة والنمو، فمنها رغدَ، ورغب، ورغسَ (من النعمة)، ورغثَ (تقال في الرضاع!)، ورغو، ورغل (تشبه ما في رغث) ويقال عيشٌ أرغل وأرغلت الأرض، و(رغم) التي منها الرغام الذي هو التراب، ومنها يقال أرغم الله أنفه، أي ألصقه بالتراب.
وفي قلب الحرفين السابقين، يصبحان غيناً وراء، وفي غالب أبنية الكلام العربي، تأتي الغين والراء، في معنى الولوج والغياب، كما في غرب، وغرس، وغرف، وغرق، وغرم، وغرز.
وفي أكثر حروف اللغة العربية، يمكن الوقوع على معنى عام موحّد، في كلمات مختلفة افتُتحت بحرفين معينين، ويشذّ عن ذلك، بعض المفردات، إنما كلما تمت العودة إلى أصول الأبنية في الكلام العربي، فإن الانسجام والوحدة في صناعة الدلالة، عبر حروف معينة يفتتح بها الكلام، هي الغالبة.