لا شك أن المرشحين الثلاثة لخلافة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الذين يواجهون صعوبة في إثارة حماسة الألمان، سيبذلون اليوم الأحد جهودا جبارة لتسجيل نقاط في أول مواجهة تلفزيونية كبيرة بينهم قبل شهر من الانتخابات التشريعية ذات النتائج غير المؤكدة.
فمن الصعب بالنسبة إلى المرشحين الثلاثة القيام بمقارنة مع ميركل "التي لا تزال تحظى بشعبية كبيرة في البلاد"، بحسب ما يؤكده العديد من الخبراء.
مادة اعلانية
لا سيما أن أثر تلك المرأة الحديدية التي هيمنت على المشهد السياسي الألماني لمدة 16 عامًا، بالغ على الساحة الداخلية والدولية على السواء.
بين البراغماتية والإنسانيةفبين البراغماتية والإنسانية تقلبت مواقف تلك المرأة الصلبة التي اتهمها خصومها أحيانا بعدم تبني "أيديولوجية" واضحة.
كما ارتفعت الانتقادات ضدها في السنوات الأخيرة، بسبب موقفها من اللاجئين، وفتح الأبواب الألمانية لهم على مصراعيها.
إلى ذلك، أشعل تعاملها الصارم مع أزمة الديون في منطقة اليورو موجة انتقادات واسعة، حتى إن مديرة صندوق النقد الدولي، المؤيدة للتقشف على نطاق واسع، كريستين لاغارد، لفتت الانتباه إلى الضرر الذي يمكن أن تلحقه إجراءات التقشف القاسية بالاقتصاد المتضرر أصلا.
إلا أن ميركل صمدت متمسكة بمبادئ سياسية واقتصادية، وإنسانية وأخلاقية لا تتزحزح، علما أنها في الكثير من الأحيان أبدت ليونة لا متناهية مع خصومها دوليا.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (أرشيفية- فرانس برس)
فكيف بدأت تلك السياسية المخضرمة مسيرتها؟
بعد سقوط جدار برلين في عام 1989، انضمت ميركل إلى حركة الصحوة الديمقراطية التي كانت تأسست حديثًا آنذاك. وفي فبراير 1990 أصبحت المتحدث الصحافي باسم الحزب. في ذلك الشهر، انضم الحزب إلى التحالف المحافظ من أجل ألمانيا، وهو تحالف مع الاتحاد الاجتماعي الألماني (DSU) والاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU).
لكن قبل عدة أيام من الانتخابات الحرة الأولى والوحيدة في ألمانيا الشرقية في مارس 1990، كشف أن رئيس الصحوة الديمقراطية، وولفغانغ شنور، كان يعمل مخبرا لحساب البوليس السياسي الألماني الشرقي سابقًا "ستاسي" لعدة سنوات.
ورغم من أن تلك الفضيحة أدت إلى هزة في صفوف مؤيدي التحالف، إلا أن الأخير انتصر، وأصبحت الصحوة جزءًا من الحكومة الألمانية، على الرغم من فوزها بنسبة 0.9% فقط من الأصوات.
حينها أضحت ميركل نائبة المتحدث باسم حكومة لوثار دي ميزير.
ثم انضمت لاحقا إلى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي CDU (في أغسطس 1990) الذي اندمج مع نظيره الغربي في 1 أكتوبر، أي في اليوم السابق لإعادة توحيد ألمانيا.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (أرشيفية- فرانس برس)
في أول انتخابات بعد الوحدة، أي في ديسمبر 1990، فازت ميركل بمقعد في البوندستاغ (مجلس النواب الألماني) عن شترالسوند-روغن-جريمين.
وعينت وزيرة للمرأة والشباب من قبل المستشار هيلموت كول في يناير 1991.
وقد نال اختيار كول للسياسية الشابة الوافدة من ألمانيا الشرقية إعجاب العديد من قطاعات الشعب الألماني ولُقبت ميركل بـ"فتاة كول".
أما مايزير، الذي أصبح نائب رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بعد اندماج الأحزاب الألمانية الشرقية والغربية، فاستقال من منصبه في 6 سبتمبر 1991، بسبب اتهامات العمل لصالح ستاسي. وحلت ميركل محله في ديسمبر من نفس العام.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (أرشيفية- فرانس برس)
بعد انتخابات 1994، أصبحت ميركل وزيرة البيئة، وترأست مؤتمر الأمم المتحدة الأول للمناخ في برلين في مارس - أبريل 1995.
في سبتمبر 1998، تم الإطاحة بالاتحاد الديمقراطي المسيحي من قبل غيرهارد شرودر والحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني SPD. وتم انتخاب ميركل أمينًا عامًا لاتحاد CDU في 7 نوفمبر.
أول امرأة تتزعم حزب ألمانيفي أواخر عام 1999، ضربت فضيحة مالية حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وثبت تورط كول في قبول واستخدام مساهمات غير قانونية في الحملة الانتخابية.
إلا أن ميركل دعت في رسالة مفتوحة نُشرت في 22 ديسمبر، أبناء الحزب إلى بداية جديدة بدون رئيسه الفخري. وقد زاد موقفها هذا من شعبيتها لدى الألمان، على الرغم من أنه أزعج الموالين لكول.
في 10 أبريل 2000، انتخبت رئيسة لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، لتصبح أول امرأة وأول مسؤول غير كاثوليكي يقود الحزب.
لكنها واجهت، كقائدة للحزب آثار الفضيحة المالية.
وعلى الرغم من أن ميركل كانت تأمل في الترشح لمنصب المستشارة في انتخابات عام 2002، إلا أن أغلبية حزبها أعرب عن تفضيله لإدموند ستويبر من الاتحاد الاجتماعي المسيحي CSU، الحزب الشقيق لحزب CDU في بافاريا.
وبعد أن خسر حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي-الاتحاد الاجتماعي المسيحي الانتخابات بفارق ضئيل، أصبحت ميركل زعيمة للمعارضة.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (أرشيفية- فرانس برس)
مع تذبذب الدعم للحزب الاشتراكي الديمقراطي، دعا شرودر إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة في سبتمبر 2005، وكانت النتيجة مأزقا افتراضيا.
فاز حزب CDU-CSU بنسبة 35.2% من الأصوات، متغلبًا على الحزب الديمقراطي الاشتراكي الحاكم بنسبة 1% فقط.
وسعى كلا الحزبين إلى حلفاء في محاولة لتشكيل حكومة، لكن أشهرا من المفاوضات لم تفض إلى نتيجة.
إلى أن استقر حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي في النهاية، على حكومة "ائتلاف كبير" تولت ميركل رئاستها.
ففي 22 نوفمبر 2005، تولت ميركل منصب المستشارة، لتصبح أول امرأة في ألمانيا، والأولى من ألمانيا الشرقية التي تتولى هذا المنصب.
كما كانت أصغر شخص يشغل هذا المنصب حيث لم يكن عمرها يتجاوز وقتئذ 51 عامًا.
الشريك المُفضلجددت ولايتها في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 27 سبتمبر 2009، وتمكنت ميركل من تشكيل حكومة مع شريكها المفضل، الحزب الديمقراطي الحر الكلاسيكي (FDP).
تميزت ولايتها الثانية إلى حد كبير بدورها الشخصي الكبير في الاستجابة لأزمة الديون في منطقة اليورو، جنبا إلى جنب مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي.
وقد دافعت بشراسة عن سياسة عن التقشف التي اعتمدتها باعتبارها الطريق إلى التعافي في أوروبا المتضررة.
كان النجاح الأكثر وضوحًا الذي حققته ميركل في هذا المجال هو دخول الاتفاق المالي حيز التنفيذ في يناير 2013، وكان يلزم الحكومات الموقعة بالعمل ضمن أطر متوازنة محددة.
لاجئون سوريون في ألمانيا (أرشيفية)
في الانتخابات الفيدرالية التي جرت في سبتمبر 2013، حقق تحالف CDU-CSU فوزًا رائعًا، وحصل على ما يقرب من 42% من الأصوات - أي أقل بقليل من الأغلبية المطلقة. ولكن نظرًا لأن شريكها في الائتلاف، الحزب الديمقراطي الحر، فشل في الوصول إلى عتبة 5% للتمثيل، واجهت ميركل احتمال تشكيل حكومة إما مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي أو حزب الخضر، وكلاهما كان من المرجح أن يكونا شريكين مترددين.
بعد أكثر من شهرين من المفاوضات، حصلت ميركل على اتفاق مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي لتشكيل حكومة ائتلافية كبرى أخرى.
وفي 17 ديسمبر، أصبحت مستشارة لألمانيا للمرة الثالثة في فترة ما بعد الحرب (بعد كونراد أديناور وكول).
أزمة المهاجرين وتراجع الدعماستمر الاقتصاد الأوروبي في التعثر بشكل كبير مع دخول ميركل فترة ولايتها الثالثة، وكان احتمال خروج اليونان من منطقة اليورو مصدر قلق متكرر- لكن سرعان ما طغى تحديان أمنيان على حدود الاتحاد الأوروبي.
فقد طردت حركة احتجاجية موالية للغرب في أوكرانيا رئيس الوزراء الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش من منصبه في فبراير 2014، وردت موسكو بضم جمهورية القرم الأوكرانية المتمتعة بالحكم الذاتي بالقوة.
ومع استيلاء مسلحين موالين لروسيا على أراض في شرق أوكرانيا، انضمت ميركل إلى زعماء غربيين آخرين في اتهام روسيا بإثارة الصراع بشكل مباشر.
ثم قادت جهود الاتحاد الأوروبي لسن عقوبات ضد روسيا وشاركت في العديد من المناقشات متعددة الأطراف في محاولة لإعادة السلام إلى المنطقة.
إلى ذلك، واجهت أخطر أزمة لاجئين في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية عندما تدفق مئات الآلاف من المهاجرين الفارين من الصراعات في سوريا وأفغانستان وأماكن أخرى إلى الاتحاد الأوروبي.
على الرغم من أنها أكدت أن ألمانيا ستبقي حدودها مفتوحة في مواجهة حالة الطوارئ الإنسانية، إلا أن ميركل علقت مؤقتًا اتفاقية شنغن وأعادت فرض ضوابط الحدود مع النمسا في سبتمبر 2015.
لكن كان أكثر من مليون مهاجر دخلوا ألمانيا عام 2015، فدفع حزب ميركل ثمناً سياسياً باهظاً لموقفها من اللاجئين.
عندها تجلى رد الفعل العنيف ضد المهاجرين عبر احتجاجات في الشوارع وفي صناديق الاقتراع، فكان البديل اليميني لألمانيا "البديل من أجل ألمانيا" من بين الأحزاب التي استفادت من المد المتصاعد للشعبوية وكراهية الأجانب في أوروبا.
في سبتمبر 2016، احتل حزب البديل من أجل ألمانيا المركز الثاني - متقدمًا على حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي - في الانتخابات الإقليمية في ولاية ميركل، مكلنبورغ-فوربومرن.
وبعد أسبوعين، طرد الاتحاد الديمقراطي المسيحي من الائتلاف الحاكم المحلي في برلين عندما سجل أسوأ أداء انتخابي له على الإطلاق في العاصمة.
لكن ميركل واصلت التوجه نحو الوسط لأنها أعلنت أنها ستسعى لولاية رابعة، وهو ما حدث بالفعل. غير أن كلا من CDU وCSU وSPD سجلت أسوأ أداء لها منذ ما يقرب 70 عامًا، حيث اجتمع أكبر حزبين في ألمانيا للفوز بما يزيد قليلاً عن نصف الأصوات.
ولاية رابعة عاصفةاستفادت الأحزاب الصغيرة من الاستياء من التحالف الكبير، وحصل حزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر واليسار على أصوات كافية لكسب التمثيل في البرلمان.
لكن النتيجة الأكثر دراماتيكية كانت لحزب البديل من أجل ألمانيا، الذي احتل المركز الثالث بقوة خلف الحزب الديمقراطي الاشتراكي.
تعهدت ميركل بإشراك الناخبين المحافظين الذين حولوا دعمهم إلى حزب البديل من أجل ألمانيا، وصرح مارتن شولتز من الحزب الاشتراكي الديمقراطي أن حزبه سيعود إلى المعارضة، مستبعدًا أي نقاش حول ائتلاف كبير آخر.
لكنه في النهاية، تراجع عن موقفه، بعدما بقيت ألمانيا بدون حكومة لأشهر. وانهارت المحادثات مع الحزب الديمقراطي الحر في نوفمبر، لكن لاحت آفاق انتخابات جديدة في الأفق.
ومن الواضح أن ميركل لم تشعر بارتياح لمثل هذا الاحتمال؟
ففي ديسمبر، صوت الحزب الاشتراكي الديمقراطي لفتح مناقشات مع الاتحاد الديمقراطي المسيحي- الاتحاد المسيحي الاجتماعي حول استمرار التحالف الكبير.
واختتمت تلك المحادثات في فبراير 2018، مع تنازل ميركل عن حقيبتي الشؤون المالية والخارجية النافذين إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
واجه شولتز، الذي تم اختياره في البداية لتولي منصب وزير الخارجية في الحكومة الجديدة، رد فعل عنيف من داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي واضطر إلى التنحي كزعيم للحزب.
كان القرار النهائي بشأن التحالف بيد الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وانتهت خمسة أشهر من عدم اليقين بعد الانتخابات عندما وافق ثلثا ناخبي الحزب الاشتراكي الديمقراطي على الحكومة المقترحة في مارس 2018، لتأمين فترة رابعة لميركل رسميًا.
التخلي عن المنصباستمرت حالة التآكل للتأييد الذي كان يحظى به الحزبان التقليديان الرئيسيان في ألمانيا طوال عام 2018، واضطرت ميركل إلى مواجهة تحد من حلفائها البافاريين.
قدم هورست سيهوفر، وزير داخلية ميركل ورئيس الاتحاد الاجتماعي المسيحي، استقالته المؤقتة في يونيو 2018 في معركة حول سياسة الهجرة التي تبنتها المستشارة الألمانية. وهدد الانقسام بإسقاط الحكومة الألمانية، لكن ميركل أثبتت مرة أخرى براعتها في التسوية، وتراجع سيهوفر عن استقالته.
لم تفعل الخلافات البارزة بين الأحزاب الشقيقة المحافظة الكثير لمساعدة الاتحاد الاجتماعي المسيحي على أرضه.
ففي أكتوبر 2018، سجل الاتحاد الاجتماعي المسيحي أسوأ أداء له منذ أكثر من نصف قرن في الانتخابات الإقليمية في بافاريا.
وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، أدى أداء كئيب لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في الانتخابات الإقليمية في ولاية هيسن إلى إعلان ميركل أنها لن تسعى إلى إعادة انتخابها كزعيم لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي.
كما أعلنت عزمها التخلي عن منصب المستشارة في نهاية فترة ولايتها عام 2021.