أواخر القرن التاسع عشر، احتضن الطرف الشرقي لمدينة لندن العديد من مصانع أعواد الكبريت التي استقطبت أعداداً كبيرة من الفقراء، حيث أقبل الرجال والنساء والأطفال نحو هذه المصانع فعملوا يومياً لساعات طويلة وفي ظروف قاسية محفوفة بالمخاطر مقابل حصولهم على أجور زهيدة لا تكاد تكفيهم لشراء ما يسد رمقهم.
في المقابل، لم يعر مالكو هذه المصانع أي اهتمام يذكر للحياة القاسية التي عاش على وقعها العمال، حيث كان هاجسهم الوحيد احتكار السوق وتحقيق مزيد من الأرباح.
ومن ضمن هذه المصانع، فتح مصنع "براينت أند ماي" أبوابه في حدود منتصف القرن التاسع عشر بمنطقة باو بلندن وتحول بشكل سريع إلى أهم مصانع أعواد الكبريت بالمنطقة. ومن ضمن نحو 4000 شخص عملوا بهذه المصانع بإنجلترا، شغّل المصنع لوحده نحو 2000 عامل، أغلبهم من الفتيات اللواتي تراوحت أعمارهن بين 14 و18 سنة.
ولزيادة أرباحهم، لجأ أصحاب هذا المصنع لممارسة كانت منتشرة حينها، فعمدوا إلى تخفيض أجور العمال وزادوا ساعات العمل. وعمل العمال يومياً من السادسة صباحاً وحتى السادسة مساءً مقابل حصولهم على أجور لم تتجاوز 10 سنتات للساعة الواحدة.
كذلك مارست إدارة المصنع رقابة صارمة على العمال فتعرض العديد منهم لعقوبات قاسية، بلغت حد خصم نصف يوم عمل لأسباب بسيطة كالحديث أو الجلوس أثناء فترة العمل. كما عمد المسؤولون لأكثر من مرة لاقتطاع أجزاء من رواتب العمال لأسباب غريبة، كانت أهمها لتمويل مشروع إنشاء نصب تذكاري لرئيس الوزراء وليام إيوارت غلادستون.
وإضافة لظروفهم المادية الصعبة وساعات العمل الشاقة، واجه العمال بمصنع "براينت أند ماي" وببقية مصانع أعواد الكبريت مخاطر عديدة هددت حياتهم بسبب تعرضهم لفترات طويلة للفسفور واستنشاق دخانه. وعلى حسب تقارير تلك الفترة، عانت نسبة كبيرة من عمال مصانع الكبريت من تشوهات خلقية بسبب الفسفور، حيث تساقطت أسنانهم ونخرت القروح أفواههم. وقد أجبر ذلك العديد منهم للخضوع لعمليات جراحية لاستئصال الأجزاء المتعفنة من وجوههم مما تركهم مشوهين بقية حياتهم. وحظي الفسفور بنتائج أخرى كارثية على حياة العمال، فتزايدت نسبة إصابتهم بالفشل الكلوي وسرطان الجلد، كما فقد بعضهم حاسة البصر.
ولم تتوقف معاناة عمال مصانع أعواد الكبريت عند هذا الحد. فعلى حسب العديد من المصادر، ظهرت أعراض المرض على العمال خلال فترة لم تتجاوز الـ5 سنوات من تاريخ دخولهم لهذه المصانع. وتزامنا مع ذلك لم يتردد أرباب العمل في طرد كل عامل يمرض بسبب تعرضه للفسفور.
وعلى الرغم من تحريم الدنمارك منذ عام 1874 لاستخدام الفسفور لصناعة أعواد الكبريت لما في ذلك من مخاطر على حياة البشر، واصلت بريطانيا الاعتماد على هذه المادة متجاهلة كل التحذيرات.
وأمام هذه الظروف الصعبة، دخلت العاملات بمصنع "براينت أند ماي" في إضراب عام 1888 بمساندة الناشطة آني بيسانت، التي لقبت الأمر بالعبودية البيضاء. وبفضل ذلك، وافق أصحاب المصنع على تقديم بعض التنازلات التي تضمنت أساساً إنهاء العمل بنظام الاقتطاع من الأجور وإلغاء قرار طرد العاملات اللواتي شاركن في الإضراب.
وواصلت بريطانيا، تماماً كأغلب بقية الدول الأوروبية، استخدام الفسفور لإنتاج أعواد الكبريت لتجنب خسارة أسواقها لصالح دول أخرى وقد جاء ذلك قبل أن يتم رسمياً التخلي عن هذه المادة مطلع القرن العشرين.