كتب منير الربيع في المدن:
تفرض التطورات الدولية والإقليمية قراءة "واقعية" لما وصلت إليه أحوال الشرق الأوسط، دولاً وشعوباً، بعد سنوات من الرهانات العربية الخاسرة على وقوع صدام أميركي إيراني يكسر شوكة النفوذ الإيراني. وما تفرضه التطورات أكثر، هو إعادة التفكير ومراجعة الأداء من قبل دول الخليج العربي. لذا، كان لا بد من هذه الرسالة الواضحة والواقعية.
الأمر جلل، ويحتاج إلى إعادة صوغ رؤى عربية جديدة، ترتكز على مبدأ الاعتماد على الذات، وليس على "حلفاء" بعيدين. رؤى تؤسس لحماية الدول بما تمثّله من تعاقد بين السلطات أو الحكومات وشعوبها، ولا تكتفي بمبدأ حماية الأنظمة فقط.
الطريق إلى الخليج
في البديهيات المستهلكة، يحتّل مصطلح "ضياع فلسطين" مختلف القواميس السياسية العربية. لكن الواقع بات أسوأ. فما يضيع هو كل العالم العربي وكياناته، كما تبلور ونشأ قبل مئة سنة. تضيع الدول العربية بكليتها وعلى تفاوتها كبراً وصغراً، ثراء وفقراً. لم يعد من فرق بين دولة غنية وأخرى فقيرة أمام معضلة المناعة والشرعية والمصير.
نأمل هنا، أن يؤخذ الكلام برحابة وواقعية وموضوعية، بعيداً عن العنفوان، أو المكابرة التي لا تسمح بأي انتقاد أو رأي مخالف أو مغاير.
عندما خرجت إيران لتدعي السيطرة على أربعة عواصم عربية، كان ذلك تمهيداً لما تطمح إيران إلى زيادته توسعاً وهيمنة. فهي التي "ربحت" في العراق وسوريا ولبنان واليمن.. وها هي تعبّر عن طموحها في بسط نفوذها داخل مجتمعات دول الخليج، وفي فرض هيمنتها السياسية والأمنية عليها.
خاضت إيران تلك المعارك في الدول الأربع، من أجل الوصول إلى الخليج نفسه. وكان طريقها أشبه بطريق حزب الله إلى فلسطين مروراً بحلب وحمص ودمشق. لذا، تأتي هذه الرسالة إلى مراكز القرار في دول الخليج، في لحظة تحولات كبرى تعصف بالمنطقة. ويبدو ظاهراً فيها أن العرب هم الطرف الأضعف والأكثر خسارة، بمعزّل عن وهم "خسرنا المعركة ولم يسقط النظام" أي وهم الحفاظ على السلطة والمقدرات الاقتصادية والثروات. المعركة أبعد من ذلك بكثير.
خطاب المظلومية
قامت دول المنطقة منذ مئة سنة بالتشابك مع مفهوم المظلومية، وحماية الأقليات المظلومة. كان العرب حينها أقلية من الأقليات الخاضعة لسيطرة السلطنة العثمانية، ولم تكن هذه الدول لتأخذ استقلالها أو تتأسس فيها الدول الجديدة وتنتعش، لو لم تقم على أنقاض تلك السلطنة المترامية الأطراف، والتي كانت تمثّل أكثرية من لون طائفي ومذهبي معين يطغى على ما عداه من تنوّع. وإلى حد بعيد قامت الكيانات السياسية وفق مبدأ مراعاة الأقليات أو حمايتها. وحتى بعد اتفاق سايكس بيكو، كان السنّة إما أكثرية وإما طائفة متسيّدة، ما أنتج نظرياً أقليات أخرى مضطهدة، وكان لا بد من توفير الضمانات والحماية لها، لمواجهة تلك الأكثرية. والعامل الأقوى لدى الأقليات في وعيها السياسي، هو الشعور الدائم بالخطر أو بالمظلومية بأشكالها وأنواعها المختلفة. فمثلاً في الصراع السياسي الشيعي السنّي، والذي يتخذ حالياً طابعاً عربياً إيرانياً، يستعيد الشيعة فيه خطاباً تاريخياً يعود 1400 سنة إلى الوراء، ويرتكز على "الظلم" الذي تعرّضوا له، لشد العضد وتوحيد الجهود، والثأر من التاريخ. تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى العلويين في سوريا، الذين أرسوا نظاماً فئوياً واستئثارياً على امتداد عقود تحوطاً وخوفاً من "المدّ السني". وهذا انطبق في مرحلة من المراحل على المسيحيين في لبنان.
اليوم، تستعيد إيران خطاب المظلومية لمواجهة الغرب و"العقوبات". وعلى منطق المظلومية هذا، استطاعت القوى التي تدّعي الاستضعاف المتحالفة معها تحقيق أهداف سياسية لا يستهان بها. وعلى ما يبدو، فإن مسارها لن يتوقف عند هذه الحدود. المعركة في المنطقة تستهدف الأكثرية، على نحو يجمع مصالح الأقليات. ومسار الصراع أصبح واضحاً: معركة بوجه الدول القائمة وما تمثّله، ما سيدفعها إلى تقديم التنازلات على حساب مجتمعاتها، سعياً للحفاظ فقط الأنظمة من دون الانتباه أن ذلك يقوض الدولة والمجتمع معاً. هذا بالتحديد ما حدث منذ إجهاض ثورات شعوب الربيع العربي. هُزمت الشعوب وخربت الدولة واستبدت "نخبة" سلطة، ولو على أنقاض.
هذا المسار يُستكمل حالياً بأشكال مختلفة، من إنتاج وإخراج اللاعب الأميركي، الذي أصبح ابتزازه واضحاً لدول الخليج، وهو الطامح أساساً إلى اتفاق مع إيران. التفكير الأميركي واضح ويعبّر عن نفسه بصراحة. الطموحات الإيرانية معلنة بلا مواربة. وفي المقابل هناك افتقاد لأي مشروع عربي أو رؤية سياسية جامعة. لذا، المآل شبه الحتمي فرض المزيد من التنازلات على الأنظمة العربية وتحديداً منها دول الخليج، صاحبة الدور الأبرز والمقدرات الأكبر، ظناً منها أن هكذا تنازلات ستحفظ أنظمتها وأشكال الحكم فيها.
أميركا ووهم القوة
طوال أربعة عقود من إدعاء إيران الخمينية للمظلومية، كان العرب يتكئون على وهم القوة، حتى انكشفت حالياً أنها سراب، إن في الرهان على الأميركيين، أو في الاطمئنان إلى الثروات والمقدرات الهائلة، لتستفيق على "صفقة قرن" بين إيران وأميركا على حسابها، وعلى حساب ثرواتها التي لا تترك واشنطن فرصة إلا وتعلن صراحة رغبتها بالمزيد من الأموال بسياسة إبتزازية، عبّر عنها ترامب بوقاحة حين قال: لولا الحماية الأميركية لانهارت دول الخليج أمام أي هجوم إيراني.
في الوقت الذي كانت تدّعي إيران المظلومية والضعف، كانت تراكم المكتسبات بينما في المقابل، كانت الدول العربية تجد نفسها أمام خسارات متراكمة ومتحققة. وهذا بالحقيقة هو الذي يحتاج إلى قراءة نقدية شاملة لا تطال الخطاب فقط بل الممارسة.
بدأت الهزيمة الكبرى في العراق، عندما اندفعت دول الخليج إلى جانب الولايات المتحدة بتغطية الاجتياح. سقط نظام صدام حسين، فكانت النتيجة أن وقع العراق في القبضة الإيرانية. وكانت الهزيمة الثانية في لبنان، الذي خسرته المملكة العربية السعودية بسبب فقدان أي رؤية سياسية مستدامة للحفاظ على التوازن فيه على الأقل. فأصبح بنظر دول الخليج وبنظر واشنطن أيضاً، بلداً خاضعاً لسيطرة حزب الله. لا يتخذ قرار في لبنان يتعارض مع توجهات حزب الله، بينما المسار السياسي الخليجي يبقى على حاله ولا يتغير، يكتفي ببعض الشكليات أو النشاطات الدبلوماسية والاجتماعية والخيرية ويزهو ببعض الصور ومقاطع الفيديو التي تبث لوفد من مجلس الشورى السعودي في جولته على المسؤولين والمناطق. ولكن ما هي العوائد السياسية لهكذا زيارات؟ ألا يمثّل هذا النوع من الاستعراض والادعاء بقوة الوجود أو الحضور، شكلاً من أشكال الرضوخ لواقع الأمر؟
اتسع أفق الهزيمة العربية أكثر في سوريا، التي ضاعت من العرب بسبب سياسات "شخصية" أو حسابات ضيقة، أو بتأثير الحزازات والمناكفات بين أمراء أو وزراء، فأصبحت واقعة بين تنظيمات متطرفة من جهة وإيران والنظام وروسيا من الجهة المقابلة. غاب العرب عن التأثير بالمجريات السورية بفعل صراعاتهم فيما بينهم، وبفعل خصومة سياسية مع تركيا كان يمكن تجاوزها بسهولة. فالمشكلة الكبرى هي الغرق بمعارك وهمية أو جانبية أو شخصانية ضيقة، تضيع معها الدول، دولة بعد أخرى. أضحت سوريا خاضعة لسيطرة إيرانية روسية أميركية تركية، ويغيب العرب مكتفين بصور للوزير ثامر السبهان يزور مناطق الأكراد في شرق الفرات، بإشارة إلى الحضور الصوري المفتقد لأي تأثير، وليست الصورة خارجة عن منطق الخصومة ذاتها مع تركيا مقابل دعم الأكراد بمواجهتها.
التاجر الواحد
ليس مهماً تحديد أساس المشكلة، إذا ما كان في الخيارات أم في طريقة التفكير حيال تطبيقها. الخطأ العربي نتاج تخبط دفع بهم إلى هاوية أميركية سحيقة، من دون بناء مقومات قوة ذاتية يمكن اللجوء إليها إذا ما انقلبت المصالح الأميركية لتتلاقى مع الإيرانية على حساب العرب. في المنطق السياسي، المناورة هي في التكتيك لتحقيق الاستراتيجيات. لكن في المنطق العربي، تتم المناورة بالاستراتيجيات لصالح تحقيق بعض التكتيك. سياسات الدول تقوم على مبدأ العمل وفق كل حادثة وكل مصلحة، وعلى كل ملف بملفّه، تماما كما هو حال العلاقة بين واشنطن وطهران، وموسكو وطهران، وبين واشنطن وأنقرة، وأنقرة وموسكو. وحدهم العرب يعملون بـ"الجملة" ومع تاجر واحد، يتحكّم هو بأسعاره وسوقه. بينما الحلّ يكون بالتعامل وفق كل قضية وحساباتها ووزنها وحيثياتها، مع مختلف دول الإقليم. فليس هناك ملائكة في السياسة، ومنطق شيطنة كل مختلف أو متباين يصيب بمقتل، لأن الالتقاء أو الابتعاد يجب أن يخضع إلى ما تحتاجه المصلحة، أكانت دائمة أم عابرة.
ويتغذى منطق الخسائر أكثر، من حال الصراع العربي الداخلي، أو الخليجي - الخليجي. هذا الصراع الأخطر، والذي للمفارقة ما حدث إلا بعد مؤتمر دولي بعنوان مواجهة إيران، فكانت المواجهة مع قطر! بالتزامن مع إعلان إيران انتصارها في عواصم عربية وتطمح بالمزيد، وتقدّم نفسها كمخلّص للشعوب. الاستمرار على المسار ذاته، سيأخذ العرب إلى استرضاء إيران، أو وقوعهم في نهاية المطاف تحت جناحها لتعود كما كانت في زمن الشاه "شرطي الخليج"، هي التي أبلغت العالم منذ أيام "أن أمن الخليج مسؤوليتها"، بينما كان يعلن ترامب أن تكاليف تأمين حماية الناقلات النفطية سيُدفع من قبل العرب. ما تحتاجه الدول العربية وتحديداً دول الخليج، هو الاعتراف بالهزيمة أولاً، وتغيير نمطية التفكير السياسي جذرياً، والشروع بالإعداد لمشروع سياسي واستراتيجي مستقبلي، يعيد إليها القدرة على المبادرة، ويؤسس لمرحلة جديدة، تحمي الدول والمجتمعات وليس الأنظمة وحسب، والتي إذا ما بقيت سياساتها على حالها، فستكون خاضعة لسلسلة ابتزازات هائلة بذريعة الحماية.
تغيير المسار
بقاء المسار على حاله، سيؤدي إلى معادلة بقاء الأنظمة العربية والخليجية من بقاء النظام الإيراني، تماماً كما كانت الغاية الأساسية في مواجهة الربيع العربي خوفاً من انتقال العدوى إلى دول الخليج. فأصبح بقاء النظام السوري مبرراً وحاجة وضرورة لبقاء الأنظمة الأخرى. وهذه لا تمثّل إلا آخر الدنيا.
في كل مرة يدخل فيها الأميركي إلى منطقة، يتقدم النفوذ الإيراني فيها، على حساب العرب تحديداً. ومجرى الأحداث والسياسات يُظهر من دون لبس، أن أميركا تطمع بالدرجة الأولى الاتفاق مع إيران، وتدفع العرب للاتفاق مع إسرائيل، وتريد من مصر خنق الفلسطينيين، ولا تريد لدول الخليج إلا أن تكون "صندوق تمويل" لتلك المشاريع، التي تتعارض مع المصلحة العربية. وفي مقابل صندوق المال العربي، تريد واشنطن لإيران أن تكون حليفتها الاستراتيجية.
مسار الهزيمة واضح، من قرقعة سلاح المعارك اللامجدية، إلى الرهانات المتناسلة على عضلات الغير وقواه، وتمويل المشاريع الأميركية مقابل بقاء شعوب الدول العربية في مستنقع الضعف والمهانة واللاتنمية.
هذه هي لحظة المراجعة الكبرى. حانت لحظة العمل لبناء قوة سياسية قائمة على التفاهم مع دول أساسية ولو كان هناك خصومة معها. حان وقت الاستفاقة وإعادة صفو العلاقات مع قطر وتركيا، وبناء مشروع واضح المعالم، يشكّل مظلة تحمي دول المنطقة، بدلاً من خسارتها عوداً بعد آخر. والأهم، حان وقت مصالحة السلطات والحكومات والأنظمة لمصالحة مجتمعاتها ومواطنيها، بأقلياتهم وأكثرياتهم..