أصبح تأجيل زيارة الملك تشارلز الثالث إلى فرنسا أمراً يكاد يكون حتمياً، فلم يكن تناول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العشاء مع ملك بريطانيا في قصر فرساي، بينما باريس تحترق، سيئاً فحسب، بل بدا كأنه استفزاز وقح للعمال ذوي الياقات الزرقاء، الذين يقودون موجة من المظاهرات والإضرابات في جميع أنحاء البلاد، كما يقول تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
لقد تغيرت طبيعة تلك الاحتجاجات الضخمة خلال الأسبوع الماضي. أصبح المتظاهرون أكثر غضباً، وفي بعض المدن أصبحوا أكثر عنفاً، خاصة بعد حلول الظلام. لقد كانوا أقل اهتماماً بالغضب الذي شعروا به بشأن رفع سن التقاعد إلى 64 من 62، وأكثر اهتماماً بشأن ماكرون والطريقة التي طبّق بها القانون في البرلمان من دون تصويت كامل.
أخيراً، توسعت الأزمة لتصبح أقرب لأن تكون أزمة دستورية. وقال زعيم الاتحاد الفرنسي الديمقراطي للعمل أكبر تجمع نقابي عمالي وأكثر التجمعات النقابية اعتدالاً في فرنسا لوران بيرغر، لصحيفة نيويورك تايمز، “لقد انتقلنا من أزمة اجتماعية بشأن موضوع التقاعد، إلى بدايات أزمة ديمقراطية. الغضب يتصاعد، وأمامنا رئيس لا يرى هذا الواقع”.
وتصف إحدى الكتابات على جدار أحد مباني باريس الأمر، “أنت تنتخبني، أنا قررت، وأنت تصمت”. لخصت العبارة وجهة نظر متزايدة لماكرون كحاكم من أعلى إلى أسفل، يلوح بالناس بعيداً.
وتحب فرنسا أن تحلم بالثورة، وتعيد تمثيل الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في عام 1789، والتي أدت إلى قتل الملك والملكة وإلغاء النظام الملكي بعد ذلك بـ3 سنوات. يكاد يكون من المؤكد أن البلاد ليست على شفا بعض التشنج التحويلي الجديد.
لكن يبدو أن الفرنسيين يشعرون بأن ماكرون تجاوز الخط الأحمر، كما تقول الصحيفة الأميركية. لقد فرض إرادته لتأمين قانون لم يجر التصويت عليه من قبل مجلس النواب، في وقت أظهرت استطلاعات الرأي أن ثلثي الشعب عارضوا هذا الإجراء. انخفض دعمه إلى 28%، وفقاً لاستطلاعات الرأي، وهو أدنى مستوى منذ بداية انتفاضة السترة الصفراء الاجتماعية في عام 2018.
وتنص المادة 2 من الدستور الفرنسي على أن مبدأ الجمهورية هو “حكومة الشعب وبالشعب وللشعب”. تنص المادة 3 على أن “السيادة الوطنية ملك للشعب، ويمارسها من خلال نوابه وعن طريق الاستفتاء”.
لكن المادة 49.3، التي استُخدِمَت الآن 100 مرة منذ تأسيس الجمهورية الخامسة في عام 1958 و11 مرة من قبل حكومة رئيسة الوزراء إليزابيث بورن، التي اختارها ماكرون الصيف الماضي، تسمح للحكومة بالمضي قدماً في مشروع قانون من دون تصويت، ما دامت تضع بقاءها على المحك في تصويت برلماني.
نجت الحكومة بفارق ضئيل من التصويت على سحب الثقة في وقت سابق من هذا الأسبوع. بالطبع، التصويت على مشروع قانون والتصويت على بقاء الحكومة شيئان مختلفان، إذ إن لكلٍّ منهما وزن مختلف.
في الواقع، لأن ماكرون رأى أن مشروع قانونه الخاص برفع سن التقاعد قد لا ينجو من التصويت، لكن حكومته كانت تتمتع بفرصة أفضل للقيام بذلك، فقد اختار استخدام 49.3 من أعلى إلى أسفل، والتي ينظر إليها منتقدوه على أنها معادية للديمقراطية.
لقد كانت مقامرة محفوفة بالمخاطر، وكانت ردود الفعل السلبية شديدة. لقد زاد الرفض المتزايد للرئاسة القوية التي تصورها شارل ديغول للجمهورية الخامسة، بعد الفوضى البرلمانية للجمهورية الرابعة، من خلال المقابلة التلفزيونية المتعنتة التي أجراها ماكرون الأسبوع الماضي.
في تلك المقابلة، قال ماكرون إنه لن يقبل “التمرد” في الوقت الذي “عاشت فيه الولايات المتحدة ما شهدته في مبنى الكابيتول”.
وجد الكثير من الناس تشبيه ماكرون بين الاحتجاجات الفرنسية ضد قانون لا يحظى بشعبية، الأمر الذي أدى إلى اندلاع العنف خلال الأيام العشرة الماضية، واقتحام “الغوغاء” لمبنى الكابيتول في واشنطن عام 2021، أمراً استفزازياً.
قال بيرغر، “ما نراه هو حكم متطرف من أعلى لأسفل لماكرون. اتحادنا يرغب في الدخول في مفاوضات والتوصل إلى حل وسط”. وقال إنه منذ يكانون الثاني، لم يستقبله ماكرون أو بورن أو وزير العمل أوليفييه دوسوبت.
في مقابلة تلفزيونية، قال ماكرون أيضاً إنه شعر بإحساس رسمي بالمسؤولية لضمان بقاء نظام التقاعد الفرنسي قابلاً للتطبيق، بحجة أن هذا مستحيل مع مطالبة العمال النشطين بدعم المزيد من المتقاعدين الذين يعيشون لفترة أطول.
الإصلاح الشامل، من وجهة نظر ماكرون، ضروري لاقتصاد مستقر وحيوي. أدت الإصلاحات الاقتصادية السابقة خلال فترة رئاسته إلى انخفاض حاد في البطالة. وقد ارتفع معدل خلق فرص العمل والاستثمار الأجنبي. ونما قطاع التكنولوجيا الفرنسي بشكل كبير.
لكن الكثير من الفرنسيين غاضبون للغاية من الاستماع إلى الدروس الاقتصادية لماكرون. قال المتخصص في النقابات الفرنسية في معهد “ساينس بو” في باريس غاي غروكس، إنه “هناك المزيد من الناس في النضال ولا يريدون الاستماع إلى لغة الاعتدال. المتظاهرون ينفصلون عن النقابات ويخرجون إلى الشوارع طوال الليل”.
وقد دُعِيَ إلى مظاهرات وإضرابات كبيرة أخرى يوم الثلاثاء المقبل، وهو أحد أسباب تأجيل الزيارة الملكية البريطانية. ومع وجود أكثر من مليون شخص في الشوارع يوم الخميس، وفقاً لوزارة الداخلية (كانت تقديرات النقابات أعلى من ذلك بكثير)، لا تظهر الاحتجاجات أي علامة على الانحسار.