نبض لبنان

كيف تستفيد شركات الأسلحة الأميركية من الحرب؟

تسبَّبت الحرب الروسية على أوكرانيا بمعاناة كبيرة لشعب تلك الأرض، وأذكى في الوقت نفسه دعوات زيادة الإنفاق العسكري في كل من الولايات المتحدة وأوروبا. ومع أنَّ الحرب ربما تمثل مأساة للعالم، فإنَّ هنالك مجموعة واحدة تستفيد منها بالفعل: شركات الأسلحة الأمريكية ومتعاقدوها لدى البنتاغون. كيف ذلك؟

يقول تقرير لموقع Responsible Statecraft الأميركي إن المديرين التنفيذيون لشركات الأسلحة الكبرى كانوا يتحدثون حول الكيفية التي يمكن بها للتوترات في أوروبا أن تزيد أرباحهم، حتى قبل اندلاع الحرب. فتباهى المدير التنفيذي لشركة Raytheon Technologies (ريثيون)، غريغ هايز، في مكالمة هاتفية جرت في كانون الثاني 2022 مع المستثمرين في شركته، بأنَّ احتمالات وقوع الصراع في أوروبا الشرقية ونقاط التوتر العالمية الأخرى ستكون مفيدة للشركة.

وفي أواخر آذار الماضي، دافع هايز، في مقابلة مع مجلة Harvard Business Review، عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا، عن الطريقة التي ستنتفع بها شركته من الصراع، قائلاً: “لستُ أعتذر عن ذلك. أرى مجدداً الإقرار بأنَّنا هناك للدفاع عن الديمقراطية، والحقيقة هي أنَّنا في النهاية سنرى بعض المنافع في العمل بمرور الوقت. فكل ما يتم شحنه إلى أوكرانيا اليوم يأتي بطبيعة الحال من مخزوناتنا، إمَّا في وزارة الدفاع الأمريكية أو من حلفائنا في الناتو، وهذه كلها أنباء سارة؛ إذ سيتعين علينا في النهاية تعويض (المخزونات) وسنرى استفادة للعمل على مدار السنوات المقبلة”.

يقول كل من ويليام هارتونغ، الباحث بمعهد كوينسي الأمريكي، وجوليا غليدهيل، محللة البيانات بمركز معلومات الدفاع الأمريكي، في تقريرهما بموقع Responsible Statecraft، إن الحرب في أوكرانيا هي بالفعل منجم ذهب لأمثال شركتَي ريثيون ولوكهيد مارتن الأميركيتين. بادئ ذي بدء، سيكون هنالك المتعاقدون لإعادة الإمداد بأسلحة مثل صواريخ Stinger (ستينغر) المضادة للطائرات من إنتاج شركة ريثيون، وصواريخ جافلين (Javelin) المضادة للدروع من إنتاج شركتَي ريثيون ولوكهيد مارتن، وهي الصواريخ التي قدمتها واشنطن بالفعل لأوكرانيا بالآلاف.

لكنَّ التدفق الأكبر للأرباح سيأتي من الزيادة المؤكد في الإنفاق على الأمن القومي بعد الصراع في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، والتي يبررها الغزو الروسي والكارثة التي أعقبته، على الأقل جزئياً.

الحرب في أوكرانيا هي “منجم ذهب” مفتوح بالنسبة gشركات الأسلحة الأميركية منذ 8 سنوات.

في الواقع، تعكس عمليات نقل الأسلحة المباشرة إلى أوكرانيا بالفعل جزءاً واحداً فقط من الأموال الإضافية التي تذهب إلى المتعاقدين العسكريين الأمريكيين. ففي هذه السنة المالية وحدها، ضَمِنَ أولئك المتعاقدون أيضاً حصد أرباح كبيرة من “مبادرة المساعدة الأمنية الأوكرانية” التي أطلقتها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) وبرنامج “التمويل العسكري الأجنبي” من جانب وزارة الخارجية الأميركية، وكلاهما يمولان تقديم أسلحة أمريكية ومعدات أخرى فضلاً عن التدريب العسكري.

وأصبح هذان البرنامجان، بحسب كل من هارتونغ وغليدهيل، في الواقع القناتين الرئيسيتين لتقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا منذ اللحظة التي غزا فيها الروس واستولوا على القرم في 2014. والتزمت الولايات المتحدة منذ ذلك الحين بخمسة مليارات دولار من المساعدات الأمنية لأوكرانيا.

وتفيد تقارير البنتاغون بأنَّ الولايات المتحدة قد التزمت منذ غزت القوات الروسية أوكرانيا بتقديم نحو 2.6 مليار دولار من المساعدات العسكرية لكييف، وهو ما يُوصِل إجمالي ما قدمته إدارة بايدن إلى أكثر من 3.2 مليار دولار، وما تزال في ازدياد.

وجرى تضمين جزء من هذه المساعدة في حزمة للإنفاق الطارئ لأوكرانيا في آذار الماضي، والتي تطلبت الشراء المباشر للأسلحة من صناعة الدفاع الأميركية، بما في ذلك طائرات مُسيَّرة وأنظمة صواريخ مُوجَّهة بالليزر وأسلحة رشاشة وذخيرة وغيرها من الإمدادات. وستسعى شركات الصناعات العسكرية الكبرى الآن للحصول على عقود من البنتاغون لتقديم هذه الأسلحة الإضافية، وفي الوقت نفسه تُحضِّر هذه الشركات نفسها لتعويض مخزونات البنتاغون التي قُدِّمَت لأوكرانيا بالفعل.

وفي هذا الإطار، لدى المتعاقدين العسكريين في الواقع الكثير ليتطلعوا إليه. فأكثر من نصف الجزء المُخصَّص من جانب البنتاغون ضمن حزمة الإنفاق الطارئة البالغة 6.5 مليار دولار من أجل أوكرانيا مُخصَّصٌ لتعويض مخزونات البنتاغون.

وإجمالاً، خصَّص المشرعون 3.5 مليار دولار لهذا المسعى، وهو أكثر بـ1.75 مليار دولار مما طلبه الرئيس. وعززوا التمويل أيضاً بأكثر من 150 مليون دولار من أجل برنامج “التمويل العسكري الأجنبي” من جانب وزارة الخارجية الأمريكية لأجل أوكرانيا. ولا بدَّ أن تضعوا في اعتباركم أنَّ تلك الأرقام لا تشمل حتى التمويل الطارئ لشراء الأسلحة وصيانتها من جانب البنتاغون، والذي يضمن توفير المزيد من تدفقات الإيرادات لكبار مُصنِّعي السلاح.

والأكثر من ذلك، من وجهة نظر هذه الشركات، أنَّ هنالك المزيد المتبقي مما يمكن أخذه من كعكة المساعدات العسكرية الأوكرانية. وقد أوضح بايدن بالفعل تمام الوضوح “أنَّنا سنمنح أوكرانيا الأسلحة لتقاتل وتدافع عن نفسها طوال كل الأيام العصيبة المقبلة”. ولا يسع المرء إلا أن يفترض أنَّ هنالك المزيد من الالتزامات القادمة في الطريق.

ومن الآثار الجانبية “الإيجابية” الأخرى للحرب بالنسبة لشركتَي لوكهيد مارتن وريثيون وتجار الأسلحة الآخرين من أمثالهما هو مسعى رئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب، آدم سميث (ديمقراطي عن ولاية واشنطن)، والعضو الجمهوري الرفيع باللجنة، النائب مايك روجرز عن ولاية ألاباما، تسريع إنتاج منظومة صاروخية مضادة للطائرات من الجيل التالي لتحل محل صواريخ ستينغر. وجادل ويليام لابلانت، أحدث مرشح لتولي قيادة إدارة مشتريات الأسلحة بالبنتاغون، خلال جلسات تأكيد تعيينه، بأنَّ أمريكا تحتاج إلى المزيد من “خطوط الإنتاج السريعة” للقذائف والصواريخ والطائرات المُسيَّرة. ويمكنكم أن تعتبروا ذلك منفعة أخرى قيد الانتظار لكبار متعاقدي الأسلحة.

مع ذلك، لن تكون أكبر فوائد الحرب في أوكرانيا، بالنسبة لمُصنِّعي الأسلحة الأمريكيين، هي مبيعات الأسلحة الآنية، بقدر ما هي كبيرة، بل تغيُّر طبيعة النقاش الدائر حول إنفاق البنتاغون نفسه، كما يقول الباحثان الأمريكييان. فبطبيعة الحال، كان ممثلو هذه الشركات يُروِّجون بالفعل للتحدي طويل المدى الذي تُشكِّله الصين، وهو تهديد يجري تضخيمه بصورة كبيرة، لكنَّ الغزو الروسي ليس بأقل من هدية من السماء بالنسبة لهم، إنَّه صرخة التحشيد الأكبر بالنسبة لأنصار زيادة النفقات العسكرية.

وكان من المقرر أن يحصل البنتاغون، حتى قبل الحرب، على ما لا يقل عن 7.3 تريليون دولار على مدار العقد المقبل، وهو رقم يزيد بكثير عن أربعة أضعاف تكلفة خطة الرئيس بايدن الداخلية لـ”إعادة البناء بشكل أفضل”، البالغة تكلفتها 1.7 تريليون دولار، والتي يعرقلها أعضاء الكونغرس الذين يصفونها بأنَّها “باهظة جداً”.

وعلى الرغم من هذا الحجم، يدفع الجمهوريون في الكونغرس -وإلى جانبهم عدد كبير من زملائهم الديمقراطيين- بالفعل من أجل المزيد. في الواقع، لقد وقَّع 40 عضواً جمهورياً بلجنتَي القوات المسلحة بمجلسَي النواب والشيوخ على رسالة للرئيس بايدن يدعون فيها لزيادة بنسبة 5% في الإنفاق الدفاعي بما يتجاوز التضخم، وهو ما يمكن أن يضيف ما يصل إلى 100 مليار دولار أخرى إلى تلك الميزانية المطلوبة.

يقول كل من ويليام هارتونغ، وجوليا غليدهيل، إن تلك الزيادة المزمعة في تمويلات بناء السفن، تعد جزءاً من مبلغ مقترح بقيمة 276 مليار دولار لشراء الأسلحة وإجراء المزيد من الأبحاث والتطوير ضمن الميزانية الجديدة، ومن هنا يجني أكبر خمسة متعاقدين منتجين للسلاح- شركات لوكهيد مارتن، وبوينغ، وريثيون، وجنرال ديناميكس، ونورثروب غرومان- معظم أموالها.

وتتقاسم هذه الشركات بالفعل أكثر من 150 مليار دولار من عقود البنتاغون سنوياً، وهو رقم سيزيد بسرعة الصاروخ إذا ما مضت الإدارة والكونغرس في تحقيق ما يريدانه. ولوضع كل هذا في سياقه، حصلت شركة واحدة فقط من هذه الشركات الخمس الكبيرة، لوكهيد مارتن، على عقود من البنتاغون بقيمة 75 مليار دولار خلال السنة المالية 2020 وحدها. ويُعَد ذلك أكبر بكثير من كامل الميزانية المخصصة لوزارة الخارجية، وهو دليل دامغ على مدى انحراف أولويات واشنطن، على الرغم من تعهُّد إدارة بايدن بـ”وضع الدبلوماسية أولاً”.

وتمثل قائمة الأسلحة التي يرغب بها البنتاغون في السنة المالية 2023 بياناً بالكيفية التي سيستفيد بها كبار المتعاقدين. فعلى سبيل المثال، ستنمو الميزانية المخصصة لغواصة الصواريخ الباليستية الجديدة من طراز “كولومبيا”، والتي تبنيها محطة السفن الخاصة بشركة جنرال ديناميكس جنوب شرقي ولاية كونيتيكت، للسنة المالية 2023 من 5 مليارات دولار إلى 6.2 مليار دولار.

وسيزيد الإنفاق على منظومة الصواريخ الباليستية الجديدة العابرة للقارات من إنتاج شركة نورثروب غرومان، منظومة “الردع الاستراتيجي البري”، بنحو الثلث سنوياً، لتصل إلى 3.6 مليار دولار. ومن المقرر أن تحصل فئة “الدفاع الصاروخي”، وهي تخصص لشركات بوينغ وريثيون ولوكهيد مارتن، على أكثر من 24 مليار دولار.

وبين كل الزيادات، كانت هناك مفاجأة واحدة: تخفيض مقترح في المشتريات من طائرة F-35 المقاتلة المتعثرة من إنتاج لوكهيد مارتن، من 85 طائرة إلى 61 فقط للسنة المالية 2023. والسبب واضح بما فيه الكفاية. فتلك الطائرة لديها أكثر من 800 عيب محدد في التصميم، وتكاد مشكلاتها الإنتاجية والأدائية تكون أسطورية. لكن لحسن حظ شركة لوكهيد مارتن، لن يصاحب ذلك التخفيضَ في العدد تخفيض بنفس النسبة في التمويل. ففي حين قد تتراجع الطائرات المُنتجة حديثاً بمقدار الثلث، ستتراجع الميزانية الحقيقية المخصصة لطائرات F-35 بأقل من 10%، من 12 مليار دولار إلى 11 ملياراً، وهو مبلغ أكبر من كامل الميزانية التقديرية لمركز مكافحة الأمراض والوقاية منها.

وزادت تكاليف تطوير مقاتلة F-35 بمقدار أكثر من الضعف منذ حصلت لوكهيد مارتن على عقد المقاتلة، في حين أعادت تأجيلات الإنتاج المقاتلة إلى الوراء بما يقارب عقد من الزمن تقريباً. وعلى الرغم من ذلك، اشترت أفرع الجيش عدداً كبيراً جداً من تلك المقاتلات لدرجة أنَّ المُصنِّعين لا يمكنهم مواكبة الطلب على قطع الغيار. مع ذلك، لا يمكن حتى اختبار الفعالية القتالية للمقاتلة F-35 بصورة ملائمة ليس فقط لأنَّ برمجيات المحاكاة لم تجهز، لكن أيضاً لأنَّه لا يوجد تاريخ انتهاء مُقدَّر للانتهاء منها.

يخلص الباحثان الأميركيان في نهاية تقريرهما إلى أنَّ التوصل إلى سياسة دفاعية معقولة وواقعية وبتكاليف معقولة يمثل تحدياً دوماً، وسيمثل تحدياً أكبر في خضم الكابوس الأوكراني. مع ذلك، وبالنظر إلى الوجهة التي تذهب إليها أموال دافعي الضرائب لدينا، يبقى الأمر مستحقاً لكل العناء. ويجب أن يتضمن مثل هذا النهج الجديد أموراً مثل تقليص أعداد المتعاقدين الخاصين لدى البنتاغون، وهم مئات الآلاف من الأشخاص، الكثير منهم يتولى وظائف زائدة عن الحاجة يمكن إنجازها على نحو أرخص بكثير من خلال موظفي الحكومة المدنية، أو ببساطة إلغائها. ويُقدَّر أنَّ تخفيض الإنفاق على المتعاقدين بواقع 15% من شأنه توفير نحو 262 مليار دولار على مدار 10 سنوات.

ويجب، على سبيل المثال، ببساطة إلغاء خطة البنتاغون “للتحديث”، والتي تمتد على مدى ثلاثة عقود وبتكلفة قرابة تريليوني دولار، والتي تهدف لإنتاج جيل جديد من القاذفات المُسلَّحة نووياً والصواريخ والغواصات فضلاً عن رؤوس حربية جديدة. ويجب تقليص البصمة العسكرية الأمريكية العالمية الهائلة- والتي تمثل دعوة لمزيد من الصراع تتضمَّن أكثر من 750 قاعدة عسكرية منتشرة في كافة القارات باستثناء القارة القطبية الجنوبية، وعمليات مكافحة الإرهاب في 85 بلداً– بصورة كبيرة على أقل تقدير.

ووفقاً لـ”فريق عمل الدفاع المستدام” بمركز السياسة الدولية الأميركي ودراسة لمكتب الميزانية في الكونغرس حول المقاربات البديلة للمجال الدفاعي، فإنَّ حتى عملية إعادة تفكير استراتيجية بسيطة نسبياً يمكنها أن توفر ما لا يقل عن تريليون دولار على مدار العقد المقبل، وهو مبلغ يكفي لإنفاق دفعة أولى صحيحة على الاستثمارات في الصحة العامة ومنع أو تقليص أسوأ الآثار المحتملة للتغير المناخي، أو البدء بمهمة تضييق المستويات القياسية من التفاوت في الدخل.

وبالطبع، لا يمكن لأي من هذه التغييرات أن تحدث دون مواجهة سلطة ونفوذ المجمع العسكري- الصناعي- الكونغرسي، وهي مهمة مُلحَّة بقدر صعوبة هذه اللحظات من الحرب التي تُرتَكَب في أوروبا. وبغض النظر عن مدى الصعوبة التي يمكن أن تكون عليها هذه المعركة، فإنَّها تستحق أن تُخاض، من أجل أمن العالم ومستقبل الكوكب.

وهنالك شيء واحد مضمون، هو أنَّ حدوث عملية تهافت جديدة على الإنفاق “الدفاعي” ليس إلا كارثة طور التكوين لنا جميعاً نحن الموجودين خارج ذلك المجمع.