توازن جديد في الحكومة اللبنانية

توازن جديد في الحكومة اللبنانية
توازن جديد في الحكومة اللبنانية

الوضع مختلف كليا بين حكومة سعد الحريري السابقة وحكومة حسان دياب الحالية، لجهة التوازنات وقواعد اللعبة السياسية..

مع حكومة الحريري كان الثنائي الشيعي يجهد في تطويق وتطويع «ثنائية» الحريري وباسيل وإبقائه تحت المراقبة والسيطرة لأنه كان يملك قدرة فائقة على التحكم بالقرارات والمشاريع، وكان الرئيس نبيه بري بالمرصاد لهذه الثنائية المستجدة والمتنامية منذ العام ٢٠١٦، وكان يستند الى معارضة وليد جنبلاط القوية للعهد، ويستفيد أيضا من الشرخ الحاصل بين القوات اللبنانية وكل من باسيل والحريري.

مع حكومة دياب تغير المشهد الحكومي مع انتقال ثلاثة أحزاب رئيسية يقودها الحريري وجعجع وجنبلاط الى المعارضة، ومع انكفاء باسيل عن المسرح واكتفائه بلعب دور من وراء الستارة، ومع انتقال مركز الحركة ومطبخ القرار الى السرايا الحكومي، خصوصا مع أزمة «كورونا» المستجدة التي كانت بمثابة «معمودية نار» لحكومة دياب.

هذه المعمودية والتجربة القاسية وغير المسبوقة أعطت الحكومة من جهة شرعية واقعية وسلطة أمر واقع، ومن جهة ثانية عززت حضور دياب ودوره في المعادلة.

لم يتأخر الوقت حتى بدأت التباينات بين بري ودياب بالظهور في أكثر من ملف.

وبدا واضحا أن المعادلة الحكومية الجديدة ترتكز على ثنائية «بري دياب»، وأن هذه الثنائية هي تصادمية تنافسية أكثر منها تكاملية متناغمة.

برز أولا التباين في مقاربة أزمة «كورونا» وكيفية مواجهتها، واستلزم الأمر وقتا كي يتوصل دياب الى اقناع بري بأن أفضل وأقصى ما يمكن فعله هو ما فعلته الحكومة في اعلانها حال التعبئة العامة، مبينا له الثغرات العملية والقانونية التي تحول دون إعلان حال الطوارئ.

بعد ذلك ظهر خلاف حول مشروع الـ «كابيتال كونترول» لوضع ضوابط للعلميات المصرفية.

قال بري كلمته بأن هذا المشروع لم يعد له وجود وليس واردا على أيامه أن يشرع المس بأموال المودعين في المصارف، ولا أن يمس بالدستور بطريقة استخفافية، وهناك المادة ١٧٤ من قانون النقد والتسليف، فليلجأوا إليها. وكانت النتيجة أن أعلن وزير المال غازي وزني أن هذا الموضوع سحب من التداول نهائيا، والنقاش حوله انتهى في مجلس الوزراء ولم يعد مطروحا للنقاش.

في هذا الوقت، كانت مسألة التعيينات، وتحديدا التعيينات في مصرف لبنان التي ألقت بثقلها على الحكومة بفعل الخلاف على المحاصصة الطائفية في هذه المراكز، خصوصا بعدما دخل دياب كطرف جديد في التعيينات، وتمحور الخلاف على المقاعد المسيحية والسنية، وشعر بري بأن هناك تنسيقا تحت الطاولة بين دياب وباسيل، وشعر فرنجية بأن باسيل يعمل للاستئثار بالحصة المسيحية مقابل إعطاء دياب كامل الحصة السنية. وهنا لوح فرنجية للمرة الأولى بالانسحاب من الحكومة لأنه يعتبر نفسه الطرف المسيحي الثاني فيها ويريد حصته.

بعد قليل لوح بري أيضا بتعليق مشاركته في الحكومة ولكن لسبب آخر يتعلق بعودة المغتربين اللبنانيين الى وطنهم والطريقة التي قاربت فيها الحكومة هذا الملف ووجدها مقصرة وغير مسؤولة، فقد اعتبر بري أن قضية المغتربين هي قضية وطنية ملحة وتنذر بكارثة، إذ إن هناك مجموعات كبيرة من اللبنانيين موجودين في أوروبا وفي أفريقيا، خصوصا حيث لا توجد أبسط إجراءات الحماية والوقاية الصحية، وعلى الحكومة أن تتحمل مسؤولياتها حيال شعبها المنتشر في دول العالم، ووصل الأمر بالرئيس بري الى حد القول: «لم نجد وطنا عاقا بحق أبنائه كما حصل ويحصل اليوم عبر الأداء الهمايوني الذي لمسناه من الحكومة ألم تكفي محاولة تبديد ودائع المغتربين، إن لم ينقل سرقتها عبر «الكابيتال كونترول»، وهل تجري الآن المحاولة لتبديد جنسيتهم»؟

لم يتحمل بري الطريقة التي تناولت فيها الحكومة ملف عودة المغتربين واتسمت بالتثاقل والتباطؤ والهروب من المسؤولية عندما ألمحت الى أن أي خطة لإعادة هؤلاء مؤجلة الى ما بعد ١٢ ابريل موعد انتهاء المرحلة الثانية من التعبئة العامة، وأنه لا عودة للعالقين في الخارج قبل التأكيد من عدم اصابتهم بفيروس «كورونا».

ومن الواضح أن موضوع المغتربين في أفريقيا وأكثريتهم من الطائفة الشيعية يشكل حساسية مفرطة لدى الرئيس بري الذي ولد في سيراليون وعاش سنوات في أفريقيا، ومازال «العصب الاغترابي» يعيش في قلبه وعقله الى درجة أنه يفضل مقولة قيام لبنان على جناحي المقيم والمغترب على مقولة «قيام لبنان على جناحيه المسلم والمسيحي».

وجد بري دعما سياسيا في ضغوطه على دياب لوضع خطة عاجلة تعيد المغتربين الى وطنهم. وهذه المساندة لم تقتصر على حزب الله والسيد حسن نصرالله، وإنما جاءت من جنبلاط والقوى المسيحية كافة مع ملاحظة حدة في الانتقاد الذي وجهه جعجع الى الحكومة وأدائها المخزي في هذا الموضوع.

ولم يكن أمام الحكومة التي انكشفت تبعيتها السياسية (بعد تهديد بري وفرنجية بسحب وزرائهم) إلا الرضوخ لهذه الضغوط وتعديل أولوياتها بحيث باتت مسألة إعادة المغتربين في المرتبة الأولى.

ولم يكن أمام رئيس الحكومة حسان دياب إلا أخذ غضب بري وتحذيره بعين الاعتبار، خصوصا بعد دخول حزب الله على الخط ولكن بشكل متوازن.

فمن جهة راعى موقف بري في موضوعي المغتربين والمصارف، ومن جهة ثانية حافظ على معنويات دياب وحمى حكومته.

مما لا شك فيه أن بري حظي في الآونة الأخيرة على مساحة إضافية من الحركة من قبل نصرالله، أتاحت له محاصرة باسيل ودعم جنبلاط واحتضان اللقاء التشاوري (السني) وتفهم هواجس الحريري وتحريض فرنجية.

ولكن الأمور تقف عند حد التهديد بإسقاط الحكومة وهز العصا بوجه دياب.

عند هذا الحد يتدخل حزب الله، وهذا ما حصل مع الإطلالة الأخيرة للسيد حسن نصرالله الذي عمد الى تهدئة اللعبة وتبريد الرؤوس الحامية في أوضح مطالعة دفاعية عن الحكومة وقراراتها، مفرملا جولات الاستثمار السياسي و«جلد الحكومة» حين سلم بأن هذا الملف أكبر من الحكومة ويحتاج الى استنفار وطني، وحين أجرى مقارنة بين دول عظمى مرتبكة وعاجزة (الولايات المتحدة وبريطانيا) وبين حكومة دياب التي تتحمل المسؤولية وتقوم بتدابير جيدة ضمن الأطر والإمكانات المتاحة.

ونوه نصرالله بجهود الحكومة راسما الخط الفاصل مع من يستسهل «التنقير» عليها واستهدافها وتصفية الحسابات الضيقة معها في أصعب لحظة سياسية وأخطرها في تاريخ لبنان الحديث.

ولعل العبارة الأوضح لرسالة نصرالله تجلت بالقول: «في المعركة يحتاج الإنسان الى المعنويات لا أن ينشغل في الطعن هنا وهناك».

رسالة نصرالله الى حلفائه قبل خصومه أنه هو من يحدد مصير الحكومة التي لا يرى من مبرر لإسقاطها، وهو من يحدد جدول أعمالها الذي يتصدره حاليا موضوعان: الأول الإسراع في وضع آلية لتأمين عودة المغتربين الى لبنان، والثاني هو الضغط على المصارف للإفراج عن أموال صغار المودعين، محملا إياها مسؤولية مباشرة حيال الوضع المالي المتأزم، وموجها ما يشبه التحذير إليها على خلفية أنها جنت أرباحا طائلة منذ ٢٠ عاما وعليها الآن أن تتحمل مسؤولياتها.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى