تبعا لمنطق الـ 6 و6 مكرر المقيت، أقدمت الحكومة اللبنانية على إلغاء عيد شهداء الصحافة من رزنامة الأعياد الوطنية التي تستحق يوم عطلة. ولا يخفى على أحد أن من خلال هذه الخطوة، تنكرت السلطات الرسمية لتضحيات الصحافيين الأحرار الذين لم يخشوا دفع ضريبة الاستقلال والكلمة الحرة من دمائهم وحياتهم، فكانوا أمثولة في البطولة والشهامة والشجاعة.
على أن الأهم يكمن في أن مذبحة 1916 التي ارتكبها جمال باشا السفاح لاسكات الأصوات الحرة، لم تكن المحطة الوحيدة التي وضع الصحافيون في خلالها في مقدمة المدافعين عن لبنان وحريته المقدسة، بل إن كثرا ممن اختاروا الغوص في دهاليز مهنة البحث عن المتاعب، لا لشيء إلا ليشهدوا على صناعة الأحداث وكتابة التاريخ الذي ليس إلا محطات في حياة البلاد والعباد، انتقلوا بكامل إرادتهم وشجاعتهم من كتابة التاريخ ونقل الخبر إلى صنع الحدث. فكان أن سالت دماء كثير من الصحافيين على دروب تحرير لبنان من الوصايات والاحتلالات ليتحول من ساحة لـ “حروب الآخرين”، على ما وصفه يوما عميد المهنة وكاتم أسرارها الأول غسان تويني إلى بلاد حرة ناجزة تستحق شعبا بعظمة اللبنانيين ليفنوا حياتهم فيه ويخدموه بكل قواهم، ويفدوه بدمائهم.
طويلة هي اللائحة التي حفرها الأبطال في التاريخ الحديث للبنان، العابق بعطر زهر الحرية، ذلك أنها تبدأ مع سليم اللوزي ونقيب الصحافة رياض طه، ولا تنتهي عند الشهيد الحي الوزير السابق مروان حمادة (الذي شغل منصب نائب رئيس التحرير في جريدة لوريان لو جور الناطقة بالفرنسية)، ولا عند مفكر ثورة 14 آذار سمير قصير، من دون أن تغيب عن البال أيضا “فراشة الشاشة الفضية” مي شدياق، صاحبة المواقف الجريئة، ولا النائب والصحافي الشهيد جبران تويني، بطل المواجهة المفتوحة مع النظام السوري، صاحب القسم الشهير الذي تحول (ربما من حيث لا يدري صاحبه) إلى وصية حفظها أبناء الجيل الجديد عن ظهر قلب وأعادوه إلى الساحات، فصار النشيد الأول لثوار أحرار لا ينقصهم إلا وجود فرسان بحجم وقامة تويني ليعلو صوتهم أكثر فأكثر في مواجهة طبقة حاكمة أطبقت على مقدرات البلاد ونحرت أحلام شباب لبنان، وآمال شيبه…
على أي حال، وعلى مر السنين، تعايشنا، نحن الصحافيين، مع فكرة أننا نمضي حياتنا وأعمارنا التي لا يحسب الزمن لها حسابا، في بلد ناكر للجميل، لا يعترف بالتضحيات ولا يكرمها إلا بعد فوات الأوان. ذلك أن بدلا من شكرنا على تضحياتنا ومخاطرنا بحياتنا، لا لشيء إلا لايصال الحقيقة بصوت الناس، نرى السلطات تضيق علينا مساحات الحرية، التي لطالما ميزت بلادنا في صحراء الديكتاتوريات العربية والأنظمة التوتاليتارية. وليس أبلغ إلى ذلك دليلا إلا الارتفاع المرعب في عدد الملاحقات في حق صحافيين ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي لمجرد ارتكابهم “جريمة” التعبير عن الرأي في لبنان الذي أعطى العالم قامة بحجم شارل مالك الذي ترك بصمة كبيرة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
غير أن الأهم يكمن في أن هذا النوع من الممارسات لا يخيفنا، ولا يجوز أن تركن إليه دول تثق بخياراتها. فنحن لا نمارس مهنة عادية مقابل مردود مادي. الصحافة رسالة نبيلة تكتب التاريخ وتحفظه بألسنة الناس على صفحات الجرائد وبعدسات الشاشات، وبصوت المذياع. لذلك، فإن الهدف ليس في ممارسة القنص السياسي تجاه السلطة، بل في الاضاءة على الخطايا متى وجدت… هذا دورنا وواجبنا، بل إنه حقنا على الحكام، تماما كما أن من حقنا البديهي عليهم إعطاءنا أفضل الظروف لممارسة دورنا وشغفنا، لا لشيء إلا لكي لا تستشهد حرية الصحافة في بلاد الحريات.
أخبار متعلقة :