على طاولة المسؤولين الكبار منذ ايام تقرير أمني مقلق وضعه احد الأجهزة الأمنية بحرفية عالية. وان لم يكن التقرير الأول الذي يحذر من تداعيات الحجر الصحي عملا بقواعد “التعبئة العامة” والخروقات التي رافقت مراحل تطبيقها، فقد شكل في حد ذاته تحديا إضافيا لحكومة “مواجهة التحديات” عندما يضيف هما بهذا الحجم على سائر الهموم الواجبة مواجهتها. فإلى ماذا استند التقرير وماذا في اسبابه الموجبة؟
أيًا تكن الضمانات التي يمكن للقيادات العسكرية والأمنية ان تقدمها الى المراجع السياسية فانها لم تسقط يوما من حساباتها الهم الأمني والمخاطر المتوقعة في اي وقت. فليس في العالم جهاز امني مهما عظمت قدراته والامكانات المتوافرة لديه، يضمن استقرارا امنيا كاملا وناجزا. فعلى رغم القدرة على القيام بعمليات امنية استباقية والنتائج الباهرة المترتبة عليها، على مستوى الأمنين الداخلي والخارجي وتحديدا منذ ان توسعت رقعة الحرب في سوريا وتمددت انعكاساتها الإقليمية والدولية، حيث لم يتردد القادة الأمنيون مرة في تقدير حجم المخاطر التي يمكن ان تشهدها الساحة اللبنانية في اي وقت، ليس من الممكن اقفال الأبواب التي يمكن ان تشكل معبرا للتسرب الأمني في ظل القدرات المادية واللوجستية التي يمتلكها بعض المجموعات وخصوصا تلك التي تستفيد من تغطيات مالية وامنية وسياسية وحزبية مختلفة.
وفي تقدير المراجع العسكرية والأمنية التي تحدثت الى “المركزية” ان الظروف التي يعيشها بعض المناطق اللبنانية قد تسمح بخروقات محدودة، رغم التثبت من القدرة على حصرها ووأدها في مهدها، اذ ان المتوقع من توسع رقعة الفقر في لبنان قد يكون دافعا الى القلاقل التي يمكن ان يثيرها افراد او مجموعات صغيرة تحاول الاستفادة من انشغال القوى الأمنية في إدارة المرحلة التي اعلنت فيها التعبئة العامة. فقد القت هذه القرارات مهمات إضافية على الجيش والقوى الأمنية الأخرى لا بد من القيام بها ضمانا للأمنين الاجتماعي والاقتصادي عدا عن المهمات الأساسية الموكلة اليها.
فمنذ 17 تشرين الأول الماضي تاريخ انطلاق الشرارة الأولى للثورة، تنتشر القوى العسكرية في الشوارع على مساحة لبنان بعدما توزعت المهمات واجرت مسحا كاملا للمناطق اللبنانية ما بين بيروت الإدارية وبقية المناطق اللبنانية. ولما انتشر وباء “كورونا” منذ الاعلان عن الإصابة الأولى في 21 شباط الماضي حافظت القوى العسكرية والأمنية على مهماتها الأساسية وأضيفت اليها مهمة ضبط الأمن الغذائي والصحي في لبنان وكل ما قالت به مقتضيات “التعبئة المدنية العامة” وتسهيل تنفيذ الإجراءات الصارمة التي اتخذتها الحكومة وأصرت على تنفيذها بعدما القت الحجر في بعض المناطق لحصر الوباء ومنع انتشاره.
وعليه، توغلت القوى العسكرية والأمنية في مختلف المناطق التي يمكن ان تشكل خطرا على كل الخطط الموضوعة لحصر الوباء ومنع انتشاره، فسحبت ما تبقى من خيم في وسط بيروت ومن بعدها في طرابلس وتصدت للتحركات الشعبية في مناطق مختلفة من عكار وطرابلس وبشري وصيدا ومناطق بقاعية مختلفة والضاحية الجنوبية لمنع الاكتظاظ الذي يشكل “البيئة المثلى” المحتملة لانتشار الوباء وهو ما ادى الى زرع المخاوف من امكان تحولها مناطق موبوءة لن يكون من السهل تطويقها ومواجهة مخاطرها الكبرى على بيئة كاملة.
لم تتوقف المخاوف عند الهم الأمني فحسب، ففي التقرير الأمني الأخير تحديد دقيق لمسببات الأزمة المحتملة. وهو يعود الى قراءة مؤشرات اجتماعية ومادية دقيقة يمكن ان تؤدي الى صدام قد يكون مبررا وان كان غير محمود النتائج بين القوى العسكرية والمواطنين الذين لم يعد في قدرتهم ضمان التزامهم الحجر المنزلي. ومن بين المرشحين لخوض المواجهة مع القوى العسكرية فئات لبنانية واسعة تعيش قياسا على ما توفره من دخل محدود لقوتها اليومي من عملها المستدام وليس لديها ما يكفي من المدخرات لضمان توافر ابسط مقومات العيش في حده الأدنى، فنسبة الفقر ارتفعت بين ليلة وضحاها واسبوع وآخر وارتفعت معها الأصوات الصادقة التي فضلت الوباء على الموت البطيء في المنزل، كما ابلغ بعض الذين خرقوا التدابير المعلن عنها بدليل ما حصل على طريق المطار عندما احرق احد سائقي التاكسي سيارته بدلا من ان يدفع الغرامة التي فرضت عليه لمخالفته قرار التعبئة.
انطلاقا من هذه الحادثة وغيرها، سارعت القوى العسكرية الى التحذير والنصح بالإسراع في برامج الإغاثة الحكومية الامر الذي نوقش في اجتماعات المجلس الأعلى للدفاع. وبعد ان تقرر خوض التجربة بالمساعدات الغذائية، اكتشف المعنيون صعوبة توفير المواد الغذائية الكافية فانتقلت الى خطة الـ 400 الف ليرة نقدا للمحتاجين للتخفيف من حدة الأزمة.
تزامنا، والى جانب التعثر الذي اصاب الخطة نتيجة استغلال البعض للبرنامج المالي بطريقة تستحق التحقيق والتدقيق في هوية مرتكبيها ومحاسبتهم واضطرار الجيش الى تأجيل التوزيع، لا يغفل التقرير الأمني مخاطر ازدياد عمليات السرقة والسطو على الصيدليات والمؤسسات والمنازل التي باتت صناديق للعملات الصعبة عوضا من خزائن المصارف لترفع منسوب القلق على الأمن مضافة الى مظاهر العنف المنزلي الذي تفاقم في الأيام الأخيرة.
ولا يكتفي التقرير الذي اطلعت عليه “المركزية” بالتحذير من هذه المخاطر بل يشير الى احتمال دخول مجموعات تخريبية على الخط خصوصا في مناطق محددة تهدد الأمن الغذائي والمعيشي ولا يمكن التكهن بما يمكن ان تحمله المفاجآت في اي لحظة. ولذلك لم يعد الأمن المطلوب مهمة امنية فحسب بل اصبح نتاج خطة اغاثية واجتماعية في ظل شح موارد الدولة وقدراتها الهزيلة. وهو ما يلقي اعباء اضافية يعترف بها القادة العسكريون الكبار الذين ينتظرون استحقاقات قد تكون ادهى واقسى عندما يخرج اللبنانيون من منازلهم الى حيث فقدوا مصادر عيشهم او ضاقت بهم السبل نتيجة تصميم عدد من الشركات على اقفال مكاتبها وتسريح موظفيها وعمالها. وعندها لا يخفي التقرير ما يمكن تقديره من مخاطر اقلها طريقة مواجهة انتفاضة جديدة لها ما يبررها ويدعمها على اكثر من مستوى.
أخبار متعلقة :