نبض لبنان

جردة 2019: ما قبل وما بعد 17 تشرين وما بينهما

كان الظن أن الحبر سيسيل هذا العام أيضا ليستعيد برتابة مملة أحداث العام 2019، من حيث أزمات الناس المزمنة والتي لا تنفك تتفاقم مع كل طلعة صباح، على وقع كباشات سياسية لا تعد ولا تحصى بين رؤساء ووزراء ونواب لا يتوانون عن الغرق في سجالاتهم العقيمة التي ملها الناس، بعدما شغلت يومياتهم لأكثر من ثلاثة عقود منذ انتهاء الحرب الأهلية…  كان هذا كله قبل أن تحل على لبنان وناسه وشعبه الرائع “نعمة” ثورة 17 تشرين، حيث ثاروا فعلا، وللمرة الأولى في تاريخهم، موحدين، على واقعهم المر والفساد المستشري وغياب المحاسبة، والطبقة السياسية التي ما حكمت البلاد إلا لتغرقها في واقع مزر أيقن الناس أخيرا أن الأوان قد حان لوضع حد له، وأطلقوا معركة التغيير الحقيقي في الشارع مطالبين، بحكومة من المستقلين وقانون انتخابي جديد يتيح ضخ بعض الوجوه المغيبة عن الحياة السياسية… كل هذا في مشهد رائع سيخلده التاريخ الحديث حين يكتب صفحة 2019.

على أن هذه الصفحة لم تكن وردية بلون زهر تشرين وثواره وانتفاضتهم النبيلة فقط. بل كانت عابقة برائحة البارود السياسي المتأتي من “المنازلات التقليدية” التي خاضها الأطراف المتناحرون في ما بينهم، وتصالحوا على غفلة… وكأن “لا مين شاف ولا مين دري” وعلى طريقة “يا دار ما دخلك شر”.

هكذا هو السجال الذي افتتح به لبنان العام المنصرم. ففيما كان من المفترض أن يغتنم لبنان فرصة استضافة القمة العربية الاقتصادية، في 19 و20 كانون الثاني، ليعود إلى موقعه الرائد على الخريطة العربية بعد سنوات عجاف، اعترض رئيس مجلس النواب نبيه بري على مشاركة ليبيا (وهي أحد أعضاء الجامعة العربية) في القمة على خلفية اتهام نظام القذافي باختطاف الامام موسى الصدر، فنفذ أنصار حركة أمل اعتداءات وأعمالا تخريبية كتمزيق علم ليبيا (بعد الثورة التي أطاحت القذافي)، وهو ما أدى إلى مقاطعة عربية شبه شاملة للقمة، مفجرا سجالا جديدا بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس المجلس نبيه بري، بعد عام بالتمام والكمال على أزمة المرسومين الشهيرة بين الطرفين.

غير أن لبنان، الغارق آنذاك في غياهب أزمة حكومية منذ ما بعد الانتخابات النيابية في أيار 2018، عاد وانتشل نفسه من هذه الأزمة السياسية، كما من الوقوع في محظور الانهيار السياسي والاقتصادي بتشكيل حكومة العهد الثانية برئاسة زعيم تيار المستقبل سعد الحريري، وذلك طبقا لمندرجات التسوية التي كان أبرمها مع العماد ميشال عون قبل انتخابه رئيسا في 2016. في 31 كانون الثاني، أبصرت الحكومة الحريرية الثالثة النور بعد مخاض عسير استخدمت فيه الأسلحة السياسية والطائفية من العيار الثقيل، فولدت العقد الدرزية والمسيحية والسنية التي تجاوزها الحريري، كما الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس حزب القوات سمير جعجع، لوضع حكومة إلى العمل على سكة… العمل، بعدما انضم إليها ممثل عن اللقاء التشاوري السني المناوئ للحريري (الوزير حسن مراد، وممثل عن النائب طلال إرسلان، الخصم الأول للمختارة (الوزير صالح الغريب)، وتنازلت القوات عن كثير من مطالبها لتفادي الاتهامات بعرقلة العهد، وهي التي وجدت نفسها على حين غرة في عنق زجاجة تصفية الحسابات السياسية مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، عقب إجهاز الجانبين على اتفاق معراب.

في محاولة لإعطاء إشارة ايجابية عن العزيمة على النهوض بلبنان المنهك اقتصاديا وسياسيا وماليا، أطلق الحريري شعار “إلى العمل” على حكومته الفضفاضة الحديثة الولادة، التي نالت الثقة النيابية بأغلبية 124 صوتا (ما خلا الكتائب وبعض النواب المستقلين)، بعد 15 يوما على تأليفها. غير أن الرياح لم تجر كما اشتهت سفن الرئيسين عون والحريري الطموحة. بدليل أن التوليفة المفترض أنها جامعة اصطدمت بكثير من العراقيل السياسية، فاقتصر سجلها على بعض “الواجبات” التي يصر القيمون عليها على تصويرها انجازات، علما أن بعض مفاعيلها توقف بفعل الرقابة التي مارستها المعارضة. وهذه حال موازنة العام 2019 التي أقرتها الحكومة في ختام جلسات ماراتونية حرص الوزير جبران باسيل على إضفاء لمسته الخاصة عليها بتقديم عدد من المقترحات الهادفة إلى رفع ايرادات الدولة وتخفيض العجز وتكريس مبدأ الاصلاحات، تبعا لما تطالب به الجهات المانحة في مؤتمر سيدر لمد لبنان بالمساعدات الموعودة. خطوة باسيل هذه أخرت إقرار الموازنة من جهة، وأثارت حفيظة القوات من جهة أخرى، علما أن هذا الخلاف بين الطرفين هو الثاني لهما تحت سقف حكومة “إلى العمل”، بعد ذاك المرتبط بتطبيع العلاقات مع النظام السوري، بعدما لبى الوزير الارسلاني صالح الغريب دعوة رسمية لزيارة دمشق بعد ثلاثة أيام على نيل الحكومة الثقة بموجب بيان وزاري التزمت فيه سياسة النأي بالنفس.

على أي حال، انتقلت الموازنة من الميدان الحكومي إلى ملعب مجلس النواب الذي أقرها في 19 تموز، على اعتبارها انجازا. غير أن الأهم يكمن في أن هذا الانجاز جوبه بمعارضة شرسة من جانب العسكريين المتقاعدين والقضاة احتجاجا على المساس بمكتسباتهم بذريعة خفض العجز، فأضربوا واعتصموا وقطعوا الطرق شأنهم في ذلك شأن موظفي مصرف لبنان، الذين أقدموا على خطوة من هذا النوع للمرة الأولى في تاريخهم. إلى أن الأهم يكمن في أن المتقاعدين والقضاة، وبدعم من بعض النواب، قدموا طعنا بالموازنة، تماما كما طعن الكتائب وبعض النواب المستقلين بقانون تنفيذ خطة الكهرباء الذي سنه مجلس النواب في جلسة عقدت في 17 نيسان، أي بعد 10 أيام على الجلسة الحكومية التي وضعت خطة الكهرباء على السكة، على رغم بعض التحفظات.

كل هذا لا ينفي أن النكسة الأكبر التي منيت بها الحكومة الحريرية الثالثة، تبقى التي التي خلفتها حادثة قبرشمون الشهيرة في 30 حزيران. ففي خلال زيارة رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل إلى قضاءي الشوف وعاليه، وفي معرض اعتراض الاشتراكيين على هذه الخطوة، سجل إطلاق نار في بلدة قبرشمون (البساتين) في عاليه بين أفراد من الحزب الاشتراكي وآخرين من الحزب الديموقراطي اللبناني، أدى إلى وفاة إثنين من مناصري إرسلان، وهما مرافقان للوزير صالح الغريب، الذي اعتبر الحادثة محاولة اغتيال تستهدفه، فرفع إرسلان وفريق 8 آذار مطلب تحوبل القضية إلى المجلس العدلي. تصعيد سياسي أتى في ظل تعطيل الحكومة لمدة 40 يوما بفعل استخدام الوزير جبران باسيل الثلث المعطل للمرة الأولى منذ ولادة الحكومة ليغيب أفرقاء 8 آذار عن جلسة مجلس الوزراء في 2 تموز، التي عاد الحريري ورفعها إلى أجل غير مسمى مخافة انفجار فريقه الوزاري بين مريدي رفع القضية إلى المجلس العدلي، ومعارضيه، وهم حلفاء جنبلاط التقليديين، المستقبل والقوات، علما أن المختارة كانت تقرأ بين سطور حادثة قبرشمون استكمالا لما تسميها “مؤامرة من المحور السوري الايراني” تنفذها أدوات محلية في مواجهة الخطاب السيادي الذي يرفع لواءه النائب السابق وليد جنبلاط.

بعد 40 يوما من التعطيل والمناكفات السياسية ومبادرات الحلول، طوت البلاد صفحة قبرشمون بفعل “لقاء مصالحة” جمع جنبلاط وإرسلان تحت قبة بعبدا برعاية رئيس الجمهورية وفي حضور رئيس المجلس ورئيس الحكومة في 9 آب متسلحا بجرعة الأوكسيجين هذه، أنجز مجلس الوزراء التعيينات في المجلس الدستوري (بعدما كان البرلمان عين 5 من أعضائه في 26 حزيران)، تماما كما تمكن من الاتفاق على التعيينات القضائية، في 12 أيلول، على اعتبار أن هذه هي الخطوة الأولى في المعركة على الفساد التي يشدد عليها رئيس الجمهورية مع كل إطلالة له.

كل هذه الانجازات لم تمنع الناس من النزول إلى الشارع على حين غرة في ثورة رائعة غزت لبنان في 17 تشرين الأول من أقصاه إلى أقصاه (بما فيه المناطق التي لطالما اعتبرت قلاعا حزبية للثنائي الشيعي وتيار المستقبل والاشتراكي) كان يكفي أن تفكر الحكومة مجرد تفكير في فرض رسم على خدمة الاتصال واتسآب. غير أن هذه الثورة ومطالبها المحقة تجاوزت الاحتجاج على هذه الخطوة التي عادت وألغيت، إلى المطالبة بالتخلص من كامل الطغمة الحاكمة تحت شعار “كلن يعني كلن”، لكن ليس قبل محاسبتهم وإطلاق العنان جديا لمكافحة الفساد وتأليف حكومة جديدة من الاختصاصيين المستقلين تماما عن الأحزاب التقليدية التي حكمت البلاد طويلا. لإنها باختصار معادلة سياسية جديدة يكتبها الشارع بحناجر الثوار، والتقط إشاراتها باكرا رئيس القوات سمير جعجع الذي أعلن استقالة وزرائه من الحكومة الحريرية في 19 تشرين الأول، علما أنه كان طالب، في طاولة الحوار الاقتصادي الموسع في بعبدا في 2 أيلول باستقالة الحكومة وتأليف أخرى من الاختصاصيين لانتشال البلاد من أزمات حياتية فاقمها ارتفاع سعر صرف الدولار والاضرابات المتكررة التي نتجت عن ذلك في قطاعات البنزين وصناعة الرغيف واستيراد الدواء وسواها. لكن جعجع آثر البقاء في الحكومة إلى أن انفجرت الثورة، علما أن القوات اشتكت طويلا مما اعتبرته التهميش والاقصاء والممارسات الكيدية من جانب التيار الوطني الحر.

وكما جعجع، لم يتأخر الحريري في الاستجابة للمطالب الشعبية، وعلى رأسها استقالة الحكومة، بعدما رفض الحراك ورقة إصلاحية أقرها مجلس الوزراء في بعبدا في 21 تشرين الأول، تماما كما رفض دعوات متكررة من الرئيس عون إلى الحوار حول المطالب الشعبية، على اعتبار أن الأخيرة واضحة وليست محل جدل أو نقاش. استقال الحريري إذا في 29 تشرين الأول، مفجرا قنبلة من العيار الثقيل في وجه الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر، الذي وضع عند هذا الحد حدا نهائيا للتسوية الرئاسية، ومعيدا البلاد إلى مربع مفاوضات تأليف الحكومة، التي من المفترض أن تكون برئاسة حسان دياب الذي كلف هذه المهمة الشاقة في 19 كانون الأول. خطوة أتت بعدما أحرق الشارع المحتقن، كما الحريري (من حيث لا يدري) احتمالات تكليف الوزير السابق محمد الصفدي ورجل الأعمال سمير الخطيب، على اعتبار أن شبهات فساد وغموض تحوم حول اسميهما، على حد قول الثوار الذين كانوا احتفلوا بعيد الاستقلال في عرض مدني هو الأول من نوعه، بعدما قدموا ثلاثة شهداء على مذبح الثورة وهم علاء أبو فخر وحسين عطار وعمر زكريا.

وفي انتظار مآل المفاوضات الحكومية، يبقى أن 2019 سجل بعض الأفراح كزواج النائب طوني فرنجية ولين زيدان في بنشعي، وولادة الطفلة ألكسا، ابنة الوزيرة ندى بستاني، وجويس، ابنة رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل. في المقابل، كان سجل الأحزان حافلا، حيث غيب الموت الكاتبة مي منسى (19 كانون الثاني)، المخرج السينمائي جورج نصر (23 كانون الثاني)، النائب السابق روبير غانم (10 شباط)، البطريرك نصرالله صفير (12 أيار)، المخرج سيمون أسمر (11 أيلول)، الوزير السابق ميشال إده (3 تشرين الثاني) نائب رئيس الكتائب جوزف أبو خليل (14 كانون الأول)، الممثل وليم حسواني (22 كانون الأول) والفنان رينه بندلي (28 كانون الأول).

أخبار متعلقة :