بعد الازمة الاقتصادية الخانقة التي عصفت بلبنان وبلغت ذروتها في الاشهر الاخيرة، متسببة بانفجار الشارع وثورة الغضب الشعبي ضد المسار السياسي الذي اوصل البلاد الى الانهيار، دخل لبنان مرحلة جديدة تجاوزت التسوية الرئاسية التي تخطاها الزمن لمصلحة انقاذ لبنان بعلاج نوعي جديد تفترضه طبيعة تشخيص الوضع المستجد البالغ الدقة والحراجة. فما كان ساريا حتى خريف الـ2016 حينما ابرمت التسوية التي قادت الرئيس ميشال عون الى بعبدا والرئيس سعد الحريري الى السراي، من ظروف ومعطيات حتّمها الفراغ في سدّة الرئاسة ونوعية الترشيحات، لم يعد صالحا بعد الثورة والاختناق المالي الاقتصادي الذي يحكم البلاد راهنا.
بيد ان ثمة رابطا بين التسوية والظرف الراهن من زاوية عدم الالتزام ببنود التسوية التي ابرمت انذاك، وقد شكل سببا اساسيا في انزلاق الوضع الى حيث هو.
تقول مصادر سياسية تنتمي الى احد اطراف التسوية لـ”المركزية”، ان الاتفاق قام انذاك على ثلاثة مرتكزات لو تم الالتزام بها لكانت البلاد في مكان آخر مناقض تماما لحيث هي اليوم. يتكون المرتكز الاول، من وجوب التزام سياسة النأي بالنفس واحترام دور الدولة والدستور والتأكيد على الخيارات الاستراتيجية وطبيعة علاقة لبنان مع الخارج.
هذا المرتكز، تؤكد المصادر، انه تعرض لخرق فاضح من خلال تغاضي العهد عن مواقف فاقعة اطلقها حزب الله وسيده حسن نصرالله وخروقات عملية استجلبت ردات فعل ابرز نتائجها استقالة الرئيس الحريري من السعودية، بدليل ان بيان العودة عن هذه الاستقالة تضمن التزاما بتطبيق سياسة النأي بالنفس الذي ضمّنه الحريري بيان حكومته الوزاري. اما احترام دور الدولة وتوسيع حضورها على حساب كل الادوار الاخرى لتصبح هي المرجعية الوحيدة والمسؤولة عن علاقات لبنان مع المجتمع الدولي فلم يُحترم بدوره نتيجة مواقف حزب الله الذي حوّل لبنان منصة للدفاع عن الجمهورية الاسلامية ضد دول عربية شقيقة، والتيار الوطني الحر الذي لم تعكس مواقفه في الجامعة العربية وغيرها من المنابر الخارجية النأي بالنفس بل صبت في مصلحة محور ايران وخلّفت موجات من التباين والسجالات مع شريك التسوية الرئيس الحريري.
المرتكز الثاني، بناء الدولة. في هذه النقطة بالذات لم تظهر مجرد الارادة في هذا الاتجاه، لا بل مضى العهد في المسار المناقض لبناء دولة القانون واعتماد مبدأ الشفافية وتطبيق الاصلاحات الحقيقية واعادة تكوين الادارة النظيفة ومكافحة الفساد بما يعزز ثقة المواطن بدولته بفعل تلمّس نمط جديد في التعاطي يختلف عن كل الحقبة السابقة المطبوعة بالسرقات والسمسرات والفساد المتراكم منذ ثلاثة عقود. ولعل ابلغ دليل الى هذه الممارسة ما شهدته جلسات مجلس الوزراء المتعاقبة من خلافات بين القوى السياسية التي انقسمت الى فريقين في مقاربة الملفات من بواخر الكهرباء الى التلزيمات بالتراضي وعدم اعتماد الالية في تعيين موظفي الفئة الاولى في الادارات العامة وغيرها بحيث تعاطى البعض ومن بينهم التيار الوطني الحر باستخفاف مع هذه الطروحات وأصر على استقدام البواخر عوض الشروع في بناء معامل الانتاج والقفز فوق آلية التعيينات لايصال ” الازلام” والمناصرين الى المراكز الحساسة في الدولة وعدم تطبيق الاصلاحات، وتاليا استكمال رحلة تعميم الفساد، ما شكل سببا رئيسا في استمرار النزف المالي وصولا الى انتفاضة الشعب في 17 تشرين الاول.
ثالث المرتكزات تضيف المصادر التوازن الميثاقي الذي ولئن حقق بعض القفزات النوعية خصوصا في قانون الانتخابات لجهة تصحيح الخلل واعادة التوازن الى مجلس الوزراء، الا انه وُظف ايضا لالغاء اطراف سياسية من خلال فتح معارك طائفية ونبش حروب الماضي وليس طلب تفسير المادة 95 من الدستور، الا احد اوجه هذه المعارك ومحاولة الالتفاف على صلاحيات الرئاسات الاخرى. وقالت ان الميثاقية مطلب اساسي لمصلحة قيام الدولة وليس لتوفير غطاء لحزب سياسي يتناقض دوره مع الدور التاريخي الذي اضطلع به الموارنة في لبنان واساسه الحفاظ على الدولة.
ان التسوية، تختم المصادر وعوض ان تبني الدولة نقضت اسسها وامعنت في تقوية “الدويلة” عليها من خلال العنتريات والاستفزاز فكان ما كان واجهضت نفسها. في مطلق الاحوال ليس الزمن للبكاء على الاطلال بل لانقاذ ما تبقى من الدولة فهل من يتعظ؟
أخبار متعلقة :