نبض لبنان

سنّة لبنان خارج البرلمان بدون دم

كتبت فاطمة خليفة:

بالأمس، خرج الناس في الشارع يصرخون ويعربون عن تمسكهم بسعد الحريري واليوم هو ينسحب باكيا. إما أنه ممنوع كما يقول البعض مجبرا، أو هو صادق وغير طامع بالسلطة ولا مكان له وسط الفساد.

الواقع والأرقام والاحصائيات تقول أن الحريري ما زال يمثل الأغلبية هو وحزبه، وما زال الممثل الأول للطائفة السنّية على مستوى القيادة السياسية والشعبية، وذلك واقع لبناني بعيدا عن نجاح الحريري أو اخفاقه في القيادة والسلطة، فليس واجبنا تقويم تجربته الآن لأنه حق وملك للبنانيين وحدهم. لكن انسحابه يعني أن الطائفة السنّية خرجت من المعادلة ولم يعد لها قيادة موحدة ولا تمثيل سياسي أو برلماني، ليس الامر متعلقا بشخص الحريري لكنه الواقع الذي يتطلب لأي كيان أن يكون له قائد يديره.

فعلى الرغم من الاحتجاجات الشعبية اللبنانية في السنوات الأخيرة، إلا أن ذلك لن يؤثر كثيرا في التوازنات السياسية على  الأرض، ربما كان له بعض الآثار في شعبية بعض السياسيين والزعامات الحزبية ولكن ليس بالتأثير المطلوب لإحداث تغيير في نتائج الانتخابات والتمثيل البرلماني، ويرجع السبب إلى أنه حتى الآن لم يظهر بدلاء سياسيون خصوصا في الطائفة السنّية التي لا يوجد حتى الآن اسماء منافسة للحريري شعبيا وسياسيا، ولذلك يعود التساؤل المثير وهو لماذا والحريري يضمن الفوز في الانتخابات ولا يوجد منافس له، لماذا اذن ينسحب؟

في آخر لقاء تلفزيوني له، على الرغم من عدم نجاحه في تشكيل حكومة بالتوافق مع الرئيس اللبناني، كان الحريري متحمسا جدا لخوض الانتخابات وأعلن ان الرد الحقيقي سيكون في صناديق الاقتراع، فلماذا انسحب وهو يمتلك قاعدة شعبية مؤثرة انتخابيا، وهو الرجل الذي يؤمن بالحوار والمتمسك بالأمل والتغيير إلى ما لا نهاية في كل تصريحاته والتي لم تعد شعارات فقط بل أثبتها اليوم على أرض الواقع حين أشار في كلمته عن انسحابه لافساح المجال للتغيير؟

هناك بعض الأقاويل والعهدة على مردّديها ترجع انسحاب الحريري لأسباب مختلفة وروايات متعددة. تقول إحدى الروايات وهي الرواية الأشهر أن السعودية هددت الحريري وأجبرته على الانسحاب من الانتخابات، وهذا الطرح يثير علامات استفهام كبيرة، فكيف للسعودية أن تمنع أكبر حزب للطائفة السنّية من الترشح للانتخابات، وهو الأمر الذي ينتج عنه تفتيت الطائفة السنّية سياسيا وشعبيا ومحوها برلمانيا، لصالح من اذن القضاء على سنّة لبنان؟

والرواية الثانية تقول أن هناك دولا أو قوى إقليمية والأصابع تشير أيضا إلى السعودية، تريد استبدال الحريري بشقيقه الذي ظهر فجأة على الساحة اللبنانية، والمثير للدهشة أن شقيق الحريري دأب منذ ظهوره على الهجوم على الحريري إعلاميا وسياسيا من خلال دعم بعض المعارضين والمنافسين للحريري. لكن البعض يستبعد أي دور للسعودية في قصة منافسة شقيق الحريري له، مؤكدا ان المملكة لن تكون طرفا في مؤامرة شقيق ضد شقيقه خاصة أن ذلك يؤدي إلى تفتيت أصوات الطائفة السنّية وشرذمتها ويصب في مصلحة حزب الله.

استكمالا لقصة الأخوين هناك من يدعي أن انسحاب الحريري جاء تفاديا لمواجهة شقيقه، وهذه الرواية إن صحت فهي تعكس موقفا مشرفا للحريري وتُحسب له أنه يرفض مواجهة شقيقه ويرفض شرذمة الطائفة بين أبناء الحريري الأب، على الرغم من أن البعض يؤكد أن شقيقه هو من يسعى لإزاحة الحريري والاستيلاء على مكانه شعبيا وسياسيا. تتفق تلك الرواية مع شخصية الحريري الذي يؤكد المقربون منه أنه صاحب شخصية مختلفة عن باقي السياسيين في عدم تشبثه بالمناصب فعلا وليس شعارات، ودائما ما يتفاخر أنصار الحريري بأنه المسؤول العربي الوحيد بل يكاد يكون في العالم الذي تناقصت ثروته أثناء وجوده في السلطة وليس كما هو معتاد لأي مسؤول في السلطة. ولم يستغل وجوده في الحكم لأعماله الخاصة، وبالنظر إلى تعليقات اللبنانيين على مواقع التواصل الاجتماعي سواء من أنصار الحريري أو خصومه هم شبه مجمعين على أن الرجل يرفض لغة العنف والدم جملة وتفصيلا، ولعل ذلك كان مانعا لسنّة لبنان من مصير مشابه لسنّة سوريا واليمن والعراق.

في النهاية، تأتي الرواية العلنية التي رواها سعد الحريري وهي تتلخص في جملة واحدة "حاولت ثم حاولت ثم انسحبت" وهي تعني أن لا مكان له وسط الفساد والانقسام ولا جدوى من منافسة الأشقاء والرفاق، وهي الرواية الأقرب التي يرددها أنصار الحريري الذين يؤكدون أن الرجل صدق بالفعل لا بالقول عندما قال أنه لا يريد السلطة التي يتخلى عنها بسهولة مثلما يتخلى البعض عن اشيائه القديمة، مستشهدين باستقالته وتخليه عن السلطة اكثر من مرة  وانحيازه للناس في انتفاضة لبنان السابقة، وها هو اليوم يتخلى عن السلطة البرلمانية عائدا لصفوف الشعب.

ربما يكون الأمر يصب في مصلحة الحريري وابتعاده عن المشهد اللبناني الذي يتوقع المحللون السياسيون أنه ربما يشهد تغييرا كبيرا اما بالتطبيع المرفوض شعبيا واما بالتصعيد المدمر اجتماعيا واقتصاديا. ولعلها تكون استراحة محارب وليس اعتزالا نهائيا ويعود مرة اخرى الى الواجهة فلبنان يختلف سياسيا عن باقي الدول العربية فالسياسيون يربحون ويخسرون ويصعدون ويهبطون ويعودون.

في النهاية ايا كان السبب وراء انسحاب الحريري سواء مجبرا او معذورا او على حياء ان يواجه شقيقه، فإننا أمام مشهد نادر في السلطة العربية ان يتخلى احدهم عن موقعه بسهولة فالمسؤول العربي دائما متشبثّ بالكرسي حتى ولو وصل فشله عنان السماء فإنه يبقى متمسكا بفشله إلى آخر مسمار في الكرسي.

والمحصلة هي أن الطائفة السنّية في لبنان لم يعد لها قيادة سياسية او شعبية وليس لها تمثيل سياسي ولا تمثيل برلماني، مما يعني خروجها من المعادلة كما سنّة العراق وسوريا لكن حمدا لله تمّت في لبنان بدون دم.