نبض لبنان

بين الاقتصاد الريعي وإلاقتصاد المنتج: ضَيَاع

كتب د. عامر مشموشي في صحيفة “اللواء”:

لفتني التوصيف الذي أطلقه النائب أنور الخليل عضو كتلة التنمية والتحرير التي يرأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري للموازنة التي احالتها حكومة «الى العمل» مطلع الأسبوع الجاري إلى مجلس النواب من انها تستحق ان تدخل التاريخ من خلال تسجيلها في «مؤسسة غينيس» عازياً ذلك إلى المدة الأطول التي استغرقتها لإقرارها في مجلس الوزراء والتي وصلت إلى عشرين جلسة، شهدت على مدى الضياع الذي تتخبط فيه هذه الحكومة، بل وعلى مدى هشاشة هذا النظام المحكوم بطبقة سياسية همّها الأساس ليس بناء دولة قوية وعادلة تحتضن كل أبنائها على قدم المساواة، بل الحفاظ على دولة كان يُسمّيها بعض السياسيين القدامى البقرة الحلوب التي تدر على الطبقة الحاكمة الأموال الطائلة على حساب رفاهية الشعب، وحقه في وجود دولة راعية لحقوقه ومكتسباته ومستقبله.

لكن الأهم الذي لفتني في هذا التوصيف الذي اطلقه عضو كتلة التنمية والتحرير هو انه وضع الاصبع على الجرح الذي ينزف دماً في جسم الدولة، والذي حاذرت حكومة «الى العمل» التي ملأ وزراؤها ورؤساؤهم عند وضع الموازنة وخلال مناقشة بنودها في مجلس الوزراء الفضاء الإعلامي بكلام معسول يشددون فيه بشكل دائم على انهم لن يقبلوا ولن يوافقوا على أي موازنة لا تُلبّي متطلبات الغالبية الساحقة من الشعب وتستجيب لكل احتياجاته المعيشية والاجتماعية ناهيك عن انتظام المؤسسات الدستورية من جهة، وعن وقف مزاريب هدر المال العام من قبل الطبقة الحاكمة لتذهب عائدات الدولة وايراداتها إلى جيوب هؤلاء بدلاً من ان تذهب إلى صندوق الخزينة العامة لتصرف في الأوجه التي تستفيد منها الطبقة الشعبية التي تعاني من العوز المزمن والمتراكم بسبب اغفال أرباب السلطة لهم وانكبابهم على نهب أموال الدولة وتكديسها في مصارف خارجية.

قال النائب الخليل «قد يكون أهم إنجاز توصلت إليه الحكومة من خلال الموازنة التي تستحق ان تدخل في موسوعة غينيس هو تخفيض العجز في الموازنة من 12 بالمائة، وهو معدل عال جداً إلى 7،59 بالمئة». المقصود هنا تلك الطبقة التي رفعت الصوت عالياً قبل الشروع في درس الموازنة تبشر اللبنانيين بموازنة متوازنة تحقق المطلوب لتخفيض العجز وتحفيز النمو واستعادة المال المنهوب والايرادات الكبيرة الكفيلة وحدها بسد العجز والتي يُمكن جبايتها من التهرب الضريبي والتهريب الجمركي في المرفأ والمطار وعلى الحدود، وانخفاض موارد الاتصالات، ومن السطو على املاك الدولة البحرية والنهرية والهدر في الإدارات وايجارات المباني الرسمية. يقول الخليل بدلا من ان تفعل ذلك، راح ممثلو هذه الطبقة في الحكم يبحثون عن ايرادات من هنا وايرادات من هناك من شحائح الموارد، وهم يتبارون في الأرقام وكأن هذه الأرقام هي وحدها تبني الدولة القوية والعادلة، وهي وحدها تحفز على النمو وتحول الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد منتج يحمي الدولة ويحصنها من الانزلاق إلى فعل تلك الحالة الحالية الاقتصادية والمالية والاجتماعية المتردية والتي لا يُمكن معالجتها بمثل هكذا أساليب.

هذا الكلام لعضو كتلة التنمية والتحرير عن الطريقة المزيفة والبالية التي اعتمدتها الحكومة في موازنة العام 2019، لم يعجب أركان السلطة الحاكمة وقد تداعت للرد عليه حتى تتهرب من المسؤولية بكلام مختلف تماماً وهو ان مشروع الموازنة يتضمن إجراءات تُعزّز قطاع الإنتاج بهدف الانتقال المتدرج إلى الاقتصاد الإنتاجي بدل الاقتصاد الريعي الذي اعتمدته الحكومات المتعاقبة. وإلى هؤلاء نقول كيف يُمكن ان يحصل مثل هذا الانتقال ما دامت الموازنة بنيت على الأرقام وتجميع هذه الأرقام بدلاً من ان تبنى وفق خطة مدروسة بدقة من شأن اعتمادها ان ننتقل من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج.