شابات يمنيات يواجهن وجع الحرب بالفن وراء خطوط النار، ينشرن الوجه الجميل لبلاد شوهها القبح، وأنهكها الحصار المفروض على كافة أشكال الإبداع النسوي، يتحدين أعداء الجمال والحياة، يخاطبن العالم والإنسانية من وسط الركام، يغالبن شراسة الواقع المأساوي بنتاجات بيضاء ذات قيمة تتعدى القول بالفعل، وتصنع الفارق الحقيقي في التغيير والتأثير.
"العربية.نت" تروي فصول المعاناة من دفتر حكاياتهن التي لم تطو صفحاتها بعد، وهنّ يصارعن عسر الحال وقسوة الظروف، يتخطين ثنائية الفقر والقهر، ليثبتن بأن اليمن لا يزال بخير.
مادة اعلانية
كل قصة تمثل نموذج تحدٍ وإلهام. بداياتهن رحلة أمان يشوبها القلق، يسطرن خلالها ملاحم إبداع محفوف بمصير مجهول نحو مستقبل أفضل، يفصلن من مواجعهن رسائل سلام تغصّ بألم وأمل، ويكتبن التاريخ بخيوط من دخان، لتتوهج أسماؤهن بإرادة صلبة تشع من وسط غبار الانفجارات.
فوسط عاصمة ترزح تحت وطأة الفقر والقهر، تحكمها سلطة قمعية تطبق على الأنفاس، تصادر حريات النساء وتختطف كل من يخالفهم الرأي والمعتقد، أو ينجرف لأفكار التحرر والانفتاح بما في ذلك الفن الذي يعاقب من يمارسه في العلن كونه بحسبهم يؤخر الانتصار في الجبهات، تستهجن المرأة المبدعة الطامحة لنشر موهبتها، وتواجه انتقادات مجتمعية وصلت حد التعنيف والأذى النفسي. فبعد أن كانت تنصفها الأعراف والتقاليد، فتصون كرامتها وتحفظ عفتها وأنوثتها، باتت تعيش صنوف الويل وتدهس بالأقدام أمام المارة دون أن تجد هبة لإنصافها أو فزعة لاسترداد حقها، وسط واقع يخنقه الرعب.
فاتورة فادحة دفعتها شابة لم تتجاوز 20 ربيعاً، لم تتخيل لوهلة أن شغفها بحب الأزياء، سينتهي بها وراء القضبان، لتعيش أحلك فصول المأساة داخل سجن خاضع لسلطة تعاقب المرأة التي تسلك طريق الفن بوصفه خط أحمر، تحاربه قيم المجتمع وتتصدى له سيوف القبيلة، كأنه محض جريمة لا يغتفر.
انتصار الحمادي، المولودة لأم أثيوبية، أرادت فقط أن تصبح عارضة أزياء، لتستثمر مقومات جمالها المختلط بين ثقافتين، بسمرة وجهها وعيونها الخضر، تعاونت مع مصممين لعلامات محلية، فخضعت لجلسات تصوير، ثم دفعت حريتها ثمناً باهضاً لطموحها، رغم أنها لم تقترف ما يجترح الحياء بل ارتدت زياً تقليدياً وملابس فلكلورية، ثم نشرت صورها على السوشيال ميديا، من دون غطاء لشعرها، وهذا ما أزعج "حراس الفضيلة"، وجعلهم ينتقمون لكرامة المجتمع، معتبرين بأنها لم تقترف إثماً عادياً بل خطيئة عظمى، ويجب أن تعاقب عليها سجناً وجلداً، وهو ما حدث بالفعل، حيث تم اعتقالها قسراً من دون مذكرة قانونية تخول ذلك، وفق تصريح محاميها.
لم تنته مأساة انتصار هنا، بل حاول معتقليها إلصاق تهماً تتجاوز كونها عارضة أزياء، وذلك عمل مشين يعارضه "المحافظين دينياً"، ليتم إلحاق الأذى في كرامتها، وتشويه سمعتها أمام الرأي العام ومنظمات حقوق الإنسان بأنها متورطة في قضايا مخدرات ودعارة.
نساء يصطدن الفرص من خلف أسوار الحصارقصة أخرى بطلتها إعلامية شابة تعمل بائعة للورود داخل محل صغير في محافظة تعز الخاضعة تحت سيطرة الحوثيين، تدعى أماني المليكي، 26 عاماً، تجسد حياة الكثيرات ممن يحملن مؤهلات جامعية، وينقطع طموحهن عند عتبات التخرج، في واقع مؤلم يبيع صكوك الموت مجاناً، يسرق أحلام النساء، ويصادر بصيص الفرص من طريقهن ويكرس خيباتهن أكثر فأكثر.
أماني المليكي
لكن أماني تصر أن تفتح نافذة أمل في مدينة شبعت قهراً، ونزفت دماً على فلذات أكبادها، ولا تزال تستقبل ضحاياها كل يوم لتتحول شوارعها الطيبة التي كانت تضج بالفرح والحياة إلى مأتم كبير.
أماني، الحاصلة على بكالوريوس إعلام كلية الآداب، لا تختلف عن انتصار فكليهما يمثلان وجع المرأة اليمنية، لا يفرقهما سوى اختلاف ألوان المعاناة، أما المصير فهو نفسه، فأماني سجينة أيضاً كنساء تعز خلف أسوار حصار، لا يزال جاثماً منذ سبع سنوات عجاف.
وأن طموحها الدراسي أفضى بها إلى حانوت ضيق لا يتسع لحلمها البسيط بإيجاد وظيفة تخدم مجتمعها من خلالها، وإذا انوجدت تلك الفرصة فهي تعلم جيداً أنه الجميع في مدينتها يعملون دون رواتب، ويعملون إلى جانبها في أدنى المهن والأعمال من أجل كسب قوت يومهم لسد رمق العيش.
أماني حوّلت مطبخها في شقة إلى متجر لبيع الورود الصناعية، ذلك أن مدن الحروب لم تعد تزهر فيها الورود الطبيعية، فلم تعد تمثل أي رفاهية عاطفية أو رمزية جمالية بعد أن سقيت الحقول والسفوح بالدم اليمني، وتحولت النباتات والزهور إلى أشواك. فتحاول عبر بيع الورود البلاستيكية إعطاء الناس فسحة للتعبير عن مشاعر الحب والسلام، فعلى الرغم أن البعض يعيب شغلها ويستنقصه، إلا أنها لا تزال تحصد إعجاب من حولها ممن يتوافدون إلى متجرها الصغير لاقتناء ورودها كهدايا لمناسبات وحفلات تخرج وأعياد ميلاد.
ويُعرف المجتمع اليمني بحبه للموسيقى والفنون منذ عهد بلقيس وحمير، وما تراثه الغنائي إلا شاهد على إشراقات حضارته، لكن محاولات تجريف الهوية وطمس القيم، وفرض تغيير صارم على حرية المعتقد، وتحطيم عادات متأصلة تحت قبضة قوانين دينية، تفقد معها المرأة كينوتها بصفتها الحلقة الأضعف في مجتمع أصابه الوهن بسبب ضربات الفقر المتلاحقة، تجعل النساء ضحية تدفع كرامتها ثمناً لأي تجاوز قد يمسّ مشاعر السلطة الذكورية، وربما تخسر حياتها فتهدر سنوات عمرها في السجن.
منظمة إنسانية داخل لوحةوهذه شابة يمنية أخرى تمثل نموذجاً لإبداع يمني صامد يتحدى العنف والقصف، ريشتها مشروع سلام في زمن الحرب، تصنع بالرسم ضمادة، وباللون جندياً عنيداً في مواجهة الدبابة، إنها التشكيلية الشابة سبأ جلاص، التي تؤنسن لوحاتها، فتجعلها بشرية من لحم ودم ودموع، ثم تبعثها وثائق بصرية عاجلة بطوابع قهر بريدي عابر للحدود والقلوب.
وتوصف سبأ، التي درست الأدب الفرنسي، بأنها منظمة إنسانية داخل لوحة، من خلال إصرارها على بيع لوحاتها في مزادات لصالح أعمال خيرية ومساعدات مجتمعية وإنسانية، وأعلنت سبأ مؤخراً عبر صفحتها على "فيسبوك" عن افتتاح مزاد خيري بطابع إنساني على لوحتها "عندما بكت صنعاء"، خصصت قيمتها لتوفير وجبة الإفطار في إحدى المدارس في العاصمة صنعاء.
بدأت المزاد بـ100دولار، بتاريخ 5 أغسطس 2021، وخلال 72 ساعة وصل قيمتها إلى 10 آلاف دولار. وكانت سابقاً قد باعت لوحات مماثلة من أجل توفير سلة غذائية لمئات الأسر الفقيرة. ولا تزال سبأ مستمرة بتحويل ريع لوحاتها لسد رمق المعسرين في بلدها. لتجعل فنها أداة فعل وتغيير، فقد خصصته لدعم مشاريع عديدة منها فتح مخبز خيري لإطعام المحتاجين في مديرية المراوعة بالحديدة، وبناء مدرسة في مديرية بني الحارث بصنعاء، وكذلك توفير أدوات مدرسية للطلاب الأيتام.
انتصار معنوي على فجائع الحربومن خلف دخان الانفجارات، ترفع سبأ، ريشتها عالياً، لتنتصر للأمل وحب الحياة، وتقاوم فداحة الدمار بكل ما أوتيت من بهجة لونية وتعبيرات تشكيلية، لتمنح لوحاتها صوتاً للسلام، وبعداً روحياً يضيء على الجمال الكامن خلف آثار الدمار. تصفها بـ"رسالة انتصار معنوي" على فجائع الحرب ودعوة إنسانية للابتسامة أمام فداحة المأساة، تلك الفلسفة التي تغرق فيها رسومات سبأ، تبدد القبح بلمسة جمال، تحاول النبش في رماد المآسي لتذكر العالم بإنسانيته بعد أن جفت شفقته وتخشبت مشاعره، لتعيده مجدداً إلى فطرته الأولى.
وجع بلاد في هيئة امرأةوتخطو الشابة مروى العامري على دروب اللون، وتبدع بدمها قبل فرشاتها تحفة تشكيلية لخريطة اليمن، لم تكن على شكل لوحة بل وشاح مطرز بحبيبات البن، إنها صورة لوجع بلاد في هيئة امرأة تتألم مثل أمّ، وهي تحتضن بشدة 21 محافظة هنّ في الحقيقة بناتها الشرعيات، مروى ابنة ال 18 ربيعاً، تحمل وعياً يمنياً مخلصاً للأرض والثقافة.
مروى العامري أمام لوحة "بن وحضارة"
وتوضح أن لوحتها تحمل رمزين جماليين وصورتين في لوحة واحدة، فالمتلقي يمكن أن يرى لوحة لامرأة يمنية متوشحة بزيها التقليدي، وعندما يعدل نظره أفقياً يجد خريطة اليمن بمحافظاتها الـ21 مكتوب عليها "يمن"، من دون أن يفوتها بالطبع إضفاء عنصر التاريخ من خلال إدخال الخط الحميري القديم "المسند" عنونتها "حضارة وبنّ"، كأن مروى تريد أن تقول للعالم، هذا هو "يمننا الكبير قبل أن تمزقها مافيات وتسيطر عليها مليشيات، اذاقت أهله مأساة النزوج وويلات الشتات.
"بن وحضارة" مأساة عمرها عقد كامل من الألملوحة مروى "بن وحضارة" حظيت باهتمام الكثيرين بعد مشاركتها ضمن "معرض فني" أقيم مؤخراً برعاية منظمة "اليونسكو"، الذي تبنت المشروع دعماً وتمويلاً، وبدأت مروى علاقتها مع الرسم عام 2011، قبل نشوب الأحداث التي غيرت وجه اليمن السعيد، وشكلت مفترق طرق لمستقبل مجهول.
لوحة بنّ وحضارة
وأنجزت مروى نحو 25 عملاً فنياً من ضمنها لوحة "بن وحضارة" التي أصبحت ملكاً لليونسكو كونها تلخص تاريخاً من الوجع لبلاد مزقتها الحروب طوال عقد كامل من الخراب.
المكياج سلاح ناعم لمقاومة القمع المفروض على النساءرحلة تحد وإبداع، وهذه المرة، تسطرها فصولها فتاة لم تتعدى 22 عاماً، شهد الجنفدي، التي برعت في فن المكياج السينمائي، طوعت موهبتها ومهارتها التي استقتها من دراستها للإعلام بجامعة صنعاء، وحرصت تقديم رسائل توعوية من خلال أعمال صادمة تحبس الأنفاس، فلم تغب هموم الشعب وقضايا المرأة من أجنداتها الفنية، فلم تجعل واقع الحرب الذي يعيشه اليمنييون حاجزاً لطموحها، فلم تقف مكتوفة الأيدي إزاء مسلسل الآلام الذي يعيشه شعب يعيش تم تصنيفها في أدنى خانة تحت خط الفقر، بل تحاول أن توصل صوت هؤلاء من خلال أعمال بصرية بصبغة سينمائية مستخدمةً فيها "المك آب" سلاحاً للرفض الناعم ومقاومة للقمع المجتمعي المفروض قسراً على النساء، بهدف التغيير لحياة أفضل.
شهد الجنفدي
وشهد نموذج لنجم شابة حققت شهرة على المنصات الرقمية، بمبادراتها الفنية التي حققت تفاعلاً وتعاطفاً واسعاً مع جوهر مضامينها، فقد نفذت حملات فنية تناولت خلالها أضرار الحوادث المرورية، عبر المكياج السينمائي، ونجحت برسم الجروح والكدمات والكسور ببراعة على جسد شاب قدمته كمتضرر بشكل مؤثر وصادم، للتعبير عن خطر السرعة ومدى تسببها بإعاقات مستديمة بسبب خرق القواعد المرورية وارتكاب حوادث قتل على الطريق العام.
ولم تكتف شهد بهذا، فقد قدمت رسائل توعية بأهمية الاحتراز من فيروس مرونا وقدمت صوراً مؤثرة جسدت حالات الإصابة به ورحلة المعاناة التي يعيشها المصاب، كما كرست فنها لخدمة قضايا المرأة اليمنية التي ترزح تحت وطأة عادات وتقاليد حرمتها أبسط حقوقها.
كما أبدعت صورا لوجوه نساء مشوهات بكدمات وندوب بسبب آثار ضرب عنيف طالهن لأسباب تافهة. وكم من حالات كثيرة تحاول شهد نقلها بعد أن حرك العنف ضد المرأة في اليمن الوجع العام، وألهب الوجدان الإنساني، وآخرها قصة الفتاة التي اعتدى عليها طليقها، وأحرق ملامحها بحامض بطارية سيارة، ليتركها مشوهة إلى الأبد.
تلك وصمة عنف لا يمكن لمكياج شهد أن يعبر عن فداحتها، أو يصف ذلك صوت الوجع الأنثوي في قلبها، لهذا لا تزال شهد مستمرة في التوعية، ولا تزال إبداع المرأة اليمنية مستمراً في الفن.