نبض لبنان

ليس من أجل حفنة من الدولارات.. رحيل إنيو موريكوني

رحل الموسيقار الإيطالي إنيو موريكوني، في العاصمة الإيطالية، روما، الاثنين، بعد تعرضه لكسر في العظام. وقالت وكالة "أنسا" الإيطالية في خبر لها عن رحيله الكبير: "مات مؤلف أجمل موسيقى تصويرية للسينما الإيطالية والعالمية، عن عمر يناهز الـ 91 عاماً، في عيادة كان يعالج فيها، بعد سقوطه وتعرّضه لكسر في عظم الفخذ".

هنري فوندا

فيما قالت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، في خبرها عن رحيله: "موهبة فريدة من نوعها".

وحصد موريكوني عشرات الجوائز العالمية، كجائزة الأوسكار، وجولدن غلوب، وجوائز متعددة من "غرامي" وغيرها الكثير كما رشح عشرات المرات لجوائز أخرى.

شراكة خالدة مع مخرج الروائع

شهرة موريكوني، في الأصل، نابعة من شراكته مع المخرج الكبير سيرجيو ليون، ابن بلده. الرجلان، فهما الغرب الأميركي، بطريقة خاصة إلى أبعد الحدود، بحسب نقاد السينما، وتركا أروع أفلام السينما في هذا المجال، عن رجال اكتسبوا تقنيات بقاء في تلك البيئة مفرطة القسوة لكن المفعمة بالأمل. إذ كانت الحياة الأميركية، في ذلك الوقت معشوقة صناع السينما، ولا تزال.

فوندا يموت والهارمونيكا في فمه مكتشفاً هوية المنتقم

فترة ستينيات القرن الماضي، كانت الفترة الذهبية لموريكوني، على الرغم من اشتغاله الطويل في هذا الباع منذ أربعينيات القرن الماضي، إلا أنه في تلك الفترة اهتز عالم عشاق السينما، بعدة أفلام وضع موسيقاها التصويرية، وصارت جزءا من ثقافة البشرية جمعاء. من مثل فيلم "من أجل حفنة من الدولارات" الذي أصبحت موسيقاه مطلوبة، وحدها، لما تنطوي عليه من مؤثرات لا تنسى طبعت هذا الموسيقار الراحل وخلّدته في قلوب سامعيه.

حدث مرة في الغرب

الفيلم الآخر لموريكوني، والذي جعله يحلّق في أعالي قمم موسيقى التصوير السينمائي، كان Once Upon a Time in the West عام 1968. هذا الفيلم الذي قال عنه الناقد الأميركي الكبير سِد فيلد، إنه نوع من الأفلام التي صنعت كي تراها مدى الحياة، على الرغم من انحياز فيلد، إلى منطق الأكشن الأميركي، وأهمية الدقائق الثلاث الأولى، إلا أن سيرجيو ليون، لم يترك سبباً لجعل فيلمه أيقونة في تاريخ الفُرجة، إلا وفعله، خاصة وأن موريكوني كان في عزّ فهمه وتشرّبه لأصغر تفاصيل الحياة في الغرب الأميركي، والتي أسيء فهمها في العالم الثالث، تحت ضغط الحرب الباردة بين السوفييت والأميركيين، إذ أصبحت هذه الأفلام، مجرد "رعاة بقر" يطلقون النار، في الوقت الذي كانت تقدم فيه، أصعب امتحان يمكن للمرء أن يضع نفسه فيه، وهو: بماذا كنت ستتصرف لو كنت تعيش في مكان بلا قانون؟ هل كنت ستبقى شخصا جيدا أم كنت ستقتل وتُقتل؟ وما هو المصدر الحقيقي للأخلاق؟ الضمير الجمعي أم قوة القانون؟ لكن الدعاية السوفيتية استغلت عدد الرصاصات التي تطلق في أفلام "الويسترن" لتقول للناس: هذا هو خصمي الأميركي!

من أفلام موريكوني
فيلم على مقاسه: البطل آلة هارمونيكا!

موريكوني، في فيلم Once Upon a Time in the West كان في غرفة نومه! كأن هذا الفيلم الرائع كُتِب لأجله فقط: يقوم الفيلم المذكور على موسيقى آلة الهارمونيكا التي تنفخ من بين الشفتين بعد لصقها على الفم. ثمة من أرغم عن النفخ بها، وإصدار صوتها الرهيب، وإذا سقط أو توقف عن العزف، فسوف يشنق شخص تم وضع قدميه على كتفيه هو، فإذ سقط العازف شُنق الرجل.

إذا سقط وتوقف عن العزف شنق الذي فوقه

الشخص المعد للشنق، تحت أشعة الشمس الحارقة، يرمق العملاق "هنري فوندا" بعينيه الزرقاوين النهمتين للعنف وشقّ قلوب المتفرجين، لحظتها، المعدُّ للشنق، يرفس الطفل الذي تحته، موقعا إياه والهارمونيكا على الأرض، ليموت مشنوقا، لكن بإرادته وكرامته. وتتسلل موسيقى موريكوني وتعصر القلوب عصراً. عبقري يجمع بين الموسيقى كتلحين، والموسيقى كفلسفة درامية مستقلة.

موسيقى فيلم Once Upon a Time in the West إبداع لا متناه من موريكوني. صوت عجلات القطار المعدنية، سحج الحديد بالحديد، يصدر صوتاً يقتلع الرئة من صدر السامع. ركّز موريكوني على صوت هذا السحج مفرط القسوة، ودمجه بصوت الهارمونيكا وصوت الذئاب البعيد، فتصبح الفرجة، شراكة تامة مع مأساة بطلتها الآلة الصغيرة التي ستحضر عندما سيتم الانتقام الرهيب من هنري فوندا.

الجيد والسيئ والقبيح

فهم موريكوني للمنطقة التي تولد وتموت عليها تلك المأساة، مكّنه من استغلال مفرداتها بالشكل الذي ينتج موسيقى كما لو أنها مستقلة عن أي قصة مصورة. رمال الصحراء اللاهبة، التعرق المكبوت على الجلود القاسية الآثمة، صوت الريح التي تحضر فجأة بدون توقع، سحج الحديد بالحديد، مزيج الصفير بالعواء. عالم لا ينسى في فيلم صنع ليبقى، وموسيقى تطلب منسوخة على أقراص أو كاسيتات، مثلها كأي موسيقى عالمية لم تكن معدة لفيلم، بل مجرد تأليف موسيقي.

أحد أشهر أفلام البشرية وضع موريكوني موسيقاها
ابتسامة تشارلز برونسون وهو يستعيد موسيقى الهارمونيكا قبل قتل فوندا بلحظات

فيلم آخر لموريكوني، كرر فيه نفس آلية الصرير الذي لا ينتهي، الصرير الذي هو صوت الريح بين الأشجار، وصوت الريح بين الصخور، وصوت الريح في الخرائب، وصوت الريح بعد تفسخ الجثث، ودمج الصفير بالعواء. إنه فيلم: الجيد، الرديء، القبيح The Good The Bad The Ugly وبنفس الفهم لأرض الغرب الأميركي، بنفس الانسحار، كان الصفير في الفيلم الأخير كالصفير الحاد الذي تخرجه الهارمونيكا في Once Upon a Time in the West. وكذلك فيلم "من أجل حفنة من الدولارات" يأتي الصفير إنما بوتيرة أخف، وبدلالة تعكس الأرض الرحبة التي تتراكض عليها الخيول.

العبقري العاطل عن العمل

أفلام كثيرة موسيقاها خرجت من عقل موريكوني كفيلم "سينما باراديسو" في الثمانينيات، إلا أنها لن ترحل برحيله، بل ستخلد، بحسب وكالات إعلام عالمية تحدثت عن وفاته بصفته واحدا من أبرع موسيقيي الأفلام، والذي دفع الإعلام الإيطالي لتغطية خبر وفاته، متجاوزا كل مآسي إيطاليا بوفيات وإصابات الفيروس المستجد، كورونا.

إنيو موريكوني بين بعض ملصقات أفلام ترك لها أجمل الموسيقى

لقد بدا رحيل موريكوني، الفَرد، موازيا، لرحيل الجماعة. عبقرية لا تنسى، إنيو موريكوني الذي ولد عام 1928، وتعلّم الموسيقى على يدي أبيه عازف البوق، متواضع رغم كل هذا المجد الموسيقي، هو يعلم ذلك الفارق الأليم، بين الموسيقى التي وضعت تأليفا مجردا، وموسيقاه المعمولة على فيلم، فقال مرة إنه لو قارن نفسه بموسيقيين عمالقة كباخ وموتسارت، فإنه سيعتبر نفسه عاطلا عن العمل!