وجود اللغة العربية الفصحى، في قلب اللهجات العامية، أمر استحوذ على اهتمام كثير من اللغويين العرب، خاصة عندما أصبح الكلام عن تأثيم العامية ووصفها باللحن، يأخذ منحى وصف بالمبالغة والتضخيم، فتم حرمان العامّيين العرب، من مفردات لم تكن تُجافي أصل الفصحى.
وبعدما كتب الكثير في اللّحن، وهو اصطلاح يعني الخطأ في الإعراب، وكثرت الكتب الموضوعة في هذا الشأن، وكانت في جلّها، تخطّئ ما يتنقل على ألسنة العامة من كلمات، اتّهمت باللحن، أو العامّية، بدأ التأليف يأخذ منحى آخر، وهو إعادة الاعتبار لما يرد على ألسنة العامة، واعتباره من الفصيح الصافي، كمثل ما ورد في (تثقيف اللسان وتلقيح الجنان) للصقلي، عمر بن خلف النحوي اللغوي، والمتوفى سنة 501 للهجرة.
العامية المظلومة
وكان الصقلي جريئاً إلى الدرجة التي رأى فيها العامّي على صواب فيما أهل الخاصة، ويسمّيهم "المتفصّحون" على خطأ، فأفرد باباً كاملاً يسرد فيه ما أصابت فيه العامة، وأخطأت فيه، الخاصة، ورفع عنها بعض الظلم الذي يتسبب به "المتفصّحون". وكذلك فعل ابن هشام اللخمي، المتوفى سنة 577 للهجرة، في (المدخل إلى تقويم اللسان) حيث أفرد باباً في مؤلفه، لما تلفظه العامّة واحتسب خطأ، فيما هو من تعدد لغات العرب، وقد تكون العامة استعملت "أضعفها، وربما استعملت أقواها!" وهو تعبير لم يسبق إليه، حيث يرجّح إمكانية أن تكون بعض الكلمات العامية، من أقوى لغات العرب، كما إمكانية أن تكون من أضعفها.
أمّا كتاب (بحر العوّام فيما أصاب فيه العوام) للحنبلي محمد بن إبراهيم بن يوسف المتوفى سنة 971 للهجرة، فهو مصنف كامل لتفصيح العامّية. ومثله (المقتضب فيما وافق لغة أهل من مصر من لغة العرب) لابن أبي السرور البكري المتوفى سنة 1087 للهجرة. وحفل العصر الحديث بمؤلفات كثيرة، تعيد الاعتبار للعامية وتوضح أصلها الفصيح، ككتاب القول الفصل في ردّ العامي إلى الأصل، ومعجم الألفاظ العامية ذات الحقيقة والأصول العربية، وقاموس رد العامي إلى الفصيح، والمحكم في أصول الكلمات العامية، وكتب كثيرة في هذا المجال.
فضل العامّية
إعادة الاعتبار لمفردات عربية وصل عددها إلى 3000 كلمة اعتبرت خطأ بأنها ليست فصيحة، بحسب ما جمعه الدكتور ممدوح محمد خسارة، من مجمل المصنفات التي كتبت في فصحى العامّية، لم تتوقف عند حد الدفاع المعجمي والنحوي عنها، بل القول إن العامّية "هي التي احتضنت الفصحى في أوقات الشدائد وأعصر الانحدار". كما حصل في المرحلة العثمانية ومجمل مراحل الاستعمار، حيث كانت عامّية الشوام والمصريين والمغرب العربي، صلة الوصل المباشرة مع الفصحى والتي ملأت جُملهم بمفرداتها.
ويرى باحثون، أن السرّ الكامن بفصحى العامية، يعود إلى اختلاف اللهجات العربية الشديد، والذي في بعض حالاته، يوحي كما لو أن هذه المفردة أو تلك، إمّا عامية أو دخيلة أو ليست من الفصحى، فيما الواقع، فإن معجم اللغة العامية يهدر بكلمات فصيحة.
شْوَي وتأبش قلبي!
ويحتوي (معجم فصاح العامية) لهشام النحاس، على جملة واسعة من كلمات ظُلمت وجارَ عليها النحويون واعتبروها، عامية أو دخيلة، من مثل كلمة (شْوَي) التي تستعمل من المحيط إلى الخليج، كـ"أكلت شوي" أي القليل من الطعام. والشّوى، هو الشيء الهيّن اليسير، والشّواية، البقية من المال أو البقية من القوم، والشَّوية بقية قوم، والجمع شِوايا! هكذا تكون "الشوية" التي يستعملها العامي العربي، فصيحة بالكامل.
وتستعمل كلمة "تأبش قلبي" أو "تأبشني" لدى الدمشقيين، وكثيرا ما كان يسأل عن معنى الكلمة التي اعتقدت عامية أو دخيلة وظُن فيها أن الألف الأولى مقلوبة من قاف "تقبش"، فيما هي فصيحة ومن الأبْش، الذي هو الجمع، وهي ألف وليست قافاً.
فخفخينا والطبطبة
وفي مجمل العاميات العربيات، ترد كلمة (يَع و أع) عند التأفف أو التقزز من شيء، وعادة ما تجري هذه الكلمة على لسان الأطفال، يقول (المقتضب) السابق ذكره، إن أصلها من أُع أع، وهي كلمة تقال لصوت المتقيئ، وتستعمل للتأفف، تالياً. ومثلها الطبطبة المصرية، وهي فصحى ومن صوت الماء وصوت تلاطم السيل. واستعمال المصريين، مثلاً، لكلمة "فخفخينا" التي يسمّون بها نوعاً من العصائر المختلفة، الكوكتيل، هي في الأصل قادمة من كلمة "الفخفخة" وتعني التباهي والرغد ويسر الحال فيقولون "عايش في عزّ وفخفخة" يقول المقتضب الذي قال إن "يوزوز" بلسان المصريين والتي تعني التدبير والحضّ على شيء والدفع به، واردة في بعض كتب اللغة العربية.
وفلان "يهلّس" المصرية، والإهلاس ضحكٌ فيه فتور، وأهلس في الضحك، أخفاه، وأهلس إليه، أسرّ إليه حديثاً. ويقول الشوام "ضاج ويضوج وضايج" بمعنى السأم والضجر، وهي كلمات من الفصحى، ومعجمية، إلا أنها اكتسبت معنى آخر غير أصلها القاموسي. ويقولون إذا وقع الشيء، خلسة، سَلَت، وهي فصيحة ويعني السلت وقوع الشيء فلتة. وأكلة البكلية في الأردن، مشتقة من بَكَل الفصيحة، وتعني الربط والخلط، والأكلة المذكورة مكونة من أصناف كثيرة، تحتاج الخلط والتبكيل، فصارت بكلية، وكذلك نوع أثواب يطلق عليها في الأردن اسم "مِدرقة" وهي من الفصيح القائم على كلمة التدرّق أي الاحتماء، وتدرّق به، احتمى.
مزمز الطعام مزّزه
أمّا "البرنوس" الجزائرية، وهي ثوب، فهي معجمية وتعني أي ثوب رأسه متصل بباقيه، وبرنس وتبرنس، لبس وألبس البرنس. ومن أكل الجزائريين، ما يعرف بالخليع، وهو قطع من اللحم المقطع المملح، وأصل الكلمة بالفصحى وبذات المعنى، في الخلع، وهو اسم أكلة لما يشوى ويوضع في إناء. ويسمّي الجزائريون الإناء الذي يوضع فيه السّمن، العكّة، وهي من الكلمات العربية الفصحى لفظاً ومعنى، والعكة آنية للسمن أو للعسل.
و"مزمز" في الطعام التي تقال في عدد من البلدان العربية، أصلها مزّزَ وتعني التمهل بأخذ الطعام، ومن معاني المزز بالعربية التمهّل. وكلمات عامية كثيرة أخرى، أفرد لها لغويون عرب كثيرا من الكتب. ويرى دارسون أن الأفضل جمع كل العاميات الفصيحات العربيات، في مصنّف واحد، لتكون متاحة للقارئ العربي، بصفتها جزءا من إرث اللغة العربية، لا مجرد جزء من إرث هذا البلد أو ذاك.