اليوم الدراسي الأوّل هو يوم مُبجَّل في ذاكرة الطلاب. ففي ذلك اليوم، كل طالب يذهب وهو مثقل بالخيالات التي تشكَّلت في داخله عن المدرسة وعوالمها، يذهب وهو معبأ بوصايا الوالدين ومحفوفاً بدعواتِهم. إنه يوم تاريخي تستعاد ذكرياته عندما يتقدَّم بنا العمر، وعندما تكسو ذلك اليوم ظلال الأشياء وأعباء الحياة. إنه اليوم الذي يتخلَّى فيه الطفل عن أشياء كثيرة من حياة اللهو والبساطة، ليبدأ مشوار حياته في التعلّم وتحمّل المسؤولية.
وحاول التربويون والمعلِّمون والمتخصصون في علم النفس أن يجعلوا من ذلك اليوم يوماً عادياً، بتقديم كثير من الأساليب والمقترحات، لكنه يظل اليوم الذي له مهابته وتبجيله، وقد يترك أثراً إيجابياً ودائماً في نظرة الطالب إلى الدراسة والتعلّم، أو العكس.
وللروائيين والروائيات ذكرياتهم الخاصة عن ذلك اليوم، وعندما يكتبون عنه فإنهم يفعلون كما ولو أنهم أمام حدث يستحق منهم كل العناية بدقة التعبير والتصوير. وهنا شهادات عن ذلك اليوم بأقلام روائيين وروائيات تذكروا اليوم الأول بطريقتهم الروائية.
سعود السنعوسي: يوم دراسي أوَّل.. خيبة أولى
بسبب القلم؛ كنت أتلهَّف لدخول المدرسة! كانت صورة الجـدار في بيت الجدَّة الذي نشأت فيه؛ تصوِّرني في عامي الأوَّل أحمل في كفِّي الصغيرة قلماً، وكانت كُتُب منهج اللغة العربية للصفّ الأوَّل الابتدائي، للجيل الأصغر لأعمامي، تبدأ الدَّرس الأول بعبارة: "معَ حَمَد قَلَم"، حيث توضِّح العبارة أشكال حرف الميم باختلاف موضعه من الجملة التي حفظتُ رسمها قبل أن أتعلَّم القراءة والكتابة.
وما زلت أتذكر توقي وحسرتي في اليوم الدراسي الأول، في الزِّي المدرسي؛ القميص الأبيض والبنطال الرمادي، مفروق الشَّعر مثل حمد تماماً. أتلقَّفُ كتاب اللغة العربية مستنكراً غلافه الأزرق الدَّاكن: "هذا الغلاف لا يشبه الذي أعرف!". رحت أُقلِّب أوراقه باحثاً عن الدَّرس الأوَّل، لا رسوم لحمد، كان الكتاب مزوَّداً بصور فوتوغرافية لمائدة طعام. راح المعلِّم يُلقِّننا العبارة الأولى الجديدة في منهج اللغة العربية: "أنا آكل وأشربُ لأعيش وأكبر!".
لا أظنني اليوم أسامح وزارة التربية في تغيير المنهج عوضاً عن تطويره، أو إبقائه على ما كان عليه وهو يغرس في نفوس التلاميذ محبّة حَمَدٍ الذي اكتسب قيمته من القلم الذي يحمله في كفِّه. الخيبة الكبرى التي شعرت بها هي عزلي عن محيطي في البيت، إذ إنني كنت أريد أن أكبر وأصبح مثل أعمامي الذين تعلموا القراءة والكتابة "مع حَمَد"، ولكنني شعرتُ بغصةِ اختلاف التجربة، وأنني لن أكبر أبداً لعدم مروري على حَمَدٍ والقلم، رغم ترديدي في الفصل: أنا آكل وأشرب لأعيش و..أكبر! أتذكر سؤال جدّتي ظهيرة اليوم الدراسي الأول بعد عودتي إلى البيت: ماذا تعلَّمت؟ نظرت إلى صورة الجدار حيث أطبق بكفِّي الصغيرة على قلم. أجبتها: "معَ حَمَد قَلَم".
يوسف المحيميد: لأن اسم المعلِّم يوسف.. ظننت أنني سأصبح معلِّماً
لم يكن سهلاً أن يُنتزع طفلٌ من حضن أمه، ليجد نفسه وسط جيش صبية مشاغبين، ومعلِّمين قساة غلاظاً. في بيتنا الكبير، في عليشة، كنا ثلاث عائلات نعيش معاً، أبي وأخويه، مما يجعل تسجيلنا في المدارس يأتي على نمط مجموعات من الأولاد والبنات.
كنا أربعة، أكبرنا أخي من الأب وابنيّ عميّ وأنا، حين قادنا عمي في سيارته الوانيت الحمراء نحو مدرسة الجاحظ الابتدائية في حي أم سليم، مرَّ بنا على بقالة صغيرة في الطريق، وابتاع لكل واحد منا (حلاوة)، وضعتها فرحاً في حقيبتي الجلدية البنيَّة.
لم يكن هناك يوم استقبال ولا ترحيب، ولا ابتسامات. كانت جدران المدرسة عالية ورمادية، تشبه جدران سجن، والوكيل يطوف بنظارتيه في الممرات، حاملاً خيزرانته، ويطل عاقداً حاجبيه من باب الفصل، بعد أن يخبط باب الفصل الخشبي بخيزرانته، بينما نجلس بوجل في صفوف على بُسط مقلَّمة، وننظر في سبورة خضراء، يقف بجوارها معلِّم فلسطيني اسمه يوسف، رغم شعوري بالرهبة والخوف، ورغم بكائي الخافت، كنت سعيداً بأن معلِّم الصف اسمه يوسف، وهذا يجعلني أشعر أنني سأقود الصفوف مستقبلاً أعلِّم التلاميذ الحروف والكلمات، وهو ما لم يحدث بالطبع.
كنت أبكي لفقد أمي، كنت أريد أمي بجواري، فلم أعتد فراقها لساعات طويلة ومملة، بينما كان أخي، يفرط في البكاء، مما جعل عمي يعيدنا إلى بيتنا في الضحى، كي نستعيد أنفاسنا ونعيد الكرَّة في الأيام التالية، ونعتاد الطريق الطويل من شرق عليشة إلى ابتدائية الجاحظ عند دوار أم سليم. وعلى الرغم من شغفي بكتابة الحروف والكلمات الأولى منذ الأسبوع الأول، إلا أن سعادتي تكبر حين نتنبه على وقع قطرات المطر تدق صندوق المكيف الصحراوي في الحوش، لأدرك أنني سأتغيب من المدرسة، فأمي لن تسمح لي بالذهاب في طريق طويل وممطر، لأتكوم تحت لحافي وأغمض ببراءة.
محمد آيت حنا: اليوم الأول.. الكابوس القديم
أحد أسوأ الكوابيس التي تزورني دورياً، كابوس أراني فيه مستنداً بذراعي على حاشية مكتبٍ، أمامي الطلبة، نحنُ في اليوم الأوّل من العام الدّراسيّ، وأنا أحاول أن أقول كلمة للطّلبة، لكن لا فمي يفتح ولا الكلمات تخرج. وعلى الرّغم من أنني منذ التحقت بالتّدريس وأنا أتمكّن بداية كلّ موسمٍ من أن أتلافى مصيبة اليوم الأوّل، إلا أنّني ما زلت أرى في الكابوس المعلوم تتويجاً منطقياً للتدهور التدريجي الذي أصاب علاقتي باليوم الأوّل للدراسة.
في سنّي طفولتي الأولى كان الدّخول المدرسيّ دوماً حدثاً فريداً مبهجاً لأنه، فضلاً عن الملابس الجديدة والأدوات الدّراسية ورؤية الأصدقاء من جديد، قد كان يعيد إليّ حرّية "العطلة" التي أفقدها طيلة عطلة نهاية السّنة. كان الوضع مقلوباً، والموسم يمشي على رأسه: طيلة السّنة أتمتّع بحرية اللهو واللعب والاكتشاف، وقلّما تُفرض عليّ الواجبات ما دامت النّتائج دوماً مرضيةً ما دام"محمّد" يعرف ما يفعل. لكن ما إن تحلّ العطلة حتى يتغيّر كلّ شيء: بدءاً من السفر الذي يقتطع كل مساحات الفضاءات الشاسعة التي أنعم بها طيلة السنة (الغابة/ المرج/ ضاحية المطار..) ليختزلها في فضاءٍ محدودٍ أصير فيه مراقباً من الجميع ومضطراً إلى الالتزام بجميع القواعد، بما فيها أسوأ عادة عرفتها في طفولتي: قيلولةَ ظهيرة الصيف الطويلةَ. ثمّ تنقضي العطلة، ويأتي اليوم الدّراسي الأوّلُ معلناً عودةَ الحرية وأجواء اللعب واللهو والقراءة الحرّة.
وابتداءً من مرحلة الإعدادي انقلب كلّ شيء، وعاد الموسم يمشي على قدميه، فقدت بانتقالي إلى الدراسة الإعدادية وما رافقها من تحولاتٍ، علاقتي باليوم الدّراسي الأوّل، صرت أرى في العودة إلى المدرسة عودة مؤقتة إلى السجن في انتظار أن يُفرج عنّي مدّة شهرين أقضيهما خارج السور الذي ما انفك يتضاعفُ ويصير أسواراً، بعد انتقالي إلى الثانوي وبعده الجامعة.
تقريباً منذ سنتي الإعدادية الأخيرة لم أحضر أبداً اليوم الدراسي الأول: لا ألتحق بالمدرسة إلا في الأسبوع الثاني؛ وحتّى حين التحقت بالتدريس أصررت دوماً ألاّ تكون دروسي في اليوم الأول من الأسبوع: احتجاج على عطلتي الطّويلة التي سُرقت؟ ربّما! وربّما مجرّد سعيٍ إلى تأخير تحقق الكابوس!
منصورة عز الدين: اليوم الجميل الذي صنعه خيالي
انتظرت هذا اليوم منذ وعيت، رغبةً مني في أن أكون مثل أختي وأخي الأكبر مني؛ فذهابهما اليومي إلى المدرسة منحهما، في نظري، أهمية قصوى. كنت أتابعهما، بانبهار وهما يستذكران دروسهما أو يقرآن بصوت عالٍ، وأركض لمقابلتهما حين يعودان فرحة بما يجلبانه لي يومياً من حلوى.
كنت متشوقة إذاً ليومي الأول في المدرسة، لكن حين وجدت نفسي هناك بمفردي، شعرت بالهلع، وبحثت عن بصيص من الألفة. وتمثل هذا البصيص في قريبة لي. تبعتها إلى فصلها غير آبهة بأنني في فصل آخر، أو ربما غير منتبهة لذلك.
قضيت بجانبها يومي الأول الباهت، وفي الصباح التالي جاء مدرس متجهم للبحث عن الطالبة الناقصة من صفه. اصطحبني معه، وأمرني بالجلوس في مقعد بعينه فامتثلت ونظري مثبت على العصا في يده.
لم يشرح شيئاً، ولم يكتب حروف الأبجدية، بل طلب برفق من زميل يجلس في مقدِّمة الفصل، عرفت لاحقاً أنه ابن أخيه ويحفظ القرآن كاملاً، أن يقرأ الدرس الأول في كتاب "القراءة". نظرت إلى الحروف المتشابكة في الكتاب الموضوع أمامي، فبدت لي أشبه بطلاسم وأحجيات لن أتمكن مهما حاولت من فك شِفرتها. لسوء حظي، اكتشفت أن هذا الطالب النابه ليس استثناءً، فهناك ما لا يقل عن خمسة زملاء مثله؛ يحفظون القرآن أو أجزاءً عديدة منه على الأقل، بفضل ترددهم على الكُتَّاب منذ أجادوا المشي والكلام. وإضافة إلى هؤلاء، يوجد آخرون قضوا السنة السابقة على التحاقهم بالمدرسة في الكُتَّاب أيضاً، ويحفظون حروف الأبجدية وبإمكانهم القراءة والكتابة بدرجات متفاوتة. وبالتالي، لم يعد المدرس نفسه مطالباً بتعليم الكسالى من أمثالي المبادئ الأساسية لمادته.
اكتفى باستعراض تفوق حفظة القرآن المجتهدين هؤلاء، مستمتعاً بحيرة الأقلية التي أنتمي إليها وجهلها. ثم بدأ يختار من بيننا ضحية يسألها أن تشير له إلى الكلمة التي توقف عندها القارئ. في محاولة مني للتذاكي، رحت أعد الكلمات المكتوبة مقابل الكلمات المسموعة، ومع هذا أخطأت حين جاء دوري، وعاقبني الرجل بضربة من عصاه على يدي.
كان يوماً جحيمياً، بل ربما سنة جحيمية بكاملها، لأن معظم أيامها لم تختلف كثيراً عن نقطة انطلاقها. قضيتها كلها في محاولة فك ألغاز الحروف، وهو أمر لم أتمكن منه سوى في الصف الثاني الابتدائي. إذ في لحظة سحرية ما، صار للكلمات المكتوبة أصوات ومعانٍ مفهومة بالنسبة لي. مأخوذة بهذا الاكتشاف، انطلقت في ماراثون لقراءة كل ما يصادفني من أوراق أو كتب، كأنما كنت أنتقم من بدايتي الدراسية المتعثرة.
فاطمة عبدالحميد: بخفة شالٍ يتعرَّف على عنق
صباح ذلك اليوم، كنت واقفة بشعر مشدود إلى الخلف بقوة، وكأنَّ رأسي شجرة وحيدة فوق تل، وعلى وشك أن تقتلعها الريح. مرتدية زيّاً جديداً، وحذاءً رياضياً، وحقيبة ظهر تفوح منها رائحة سمك متعفن، رغم أنها جديدة.
وكأنه لا يكفيني إحساسي بعدم الأمان، مع كل تلك الأشياء التي ارتديتها، حتى تضيف عليها مديرة المدرسة إحساساً رهيباً بالغربة، وهي تقول في طابور الصباح عبر الميكروفون: "... المدرسة هي بيتنا الثاني". بعينين نديتين تلقيت الخبر... بيت ثانٍ؟ أنا لم أطالب قط ببيت غير بيتنا! لم يخبرني أحد بشأن البيت الجديد!! انهمرت الدموع، وظلت تتساقط بعفوية، حتى أثناء انشغالي بتحبير أسنان كل الوجوه الضاحكة، على غلاف أحد الكتب التي سلمونا إياها. في منتصف ذلك اليوم الدراسي، الذي لم أتحدث فيه مع أحد إلا للضرورة القصوى، تعاملت مع فطيرتي بحذر شديد، تحسباً لأن أجد في داخلها لؤلؤة أو خاتماً، فقد بُلينا بمعلِّمة حرصت على دس المفاجآت لنا، في الأدراج، وخلف السبورة، وأحياناً خلف ظهورنا، غير آبهة بمن يبكي منا.
أذكر أيضاً أن أكثر ما كان يخفض الخوف إلى أدنى مستوياته، في الوقت المخصص للفسحة، هو أن أدخل يدي إلى جيبي، وأربت على مصروفي المطوي في جوفه.. الورقات الثلاث التي انتقلت من محفظة أبي الدافئة، ولم أصرفها بعد.
في منتصف ذلك النهار، وحين أحرقت الشمس كل الظلال، جاء وقت العودة للبيت، لذا احتجت وأنا واقفة في ساحة المدرسة، لكل ذرة تركيز لأسمع اسم أبي بصوت رجل غريب، صوت بواب المدرسة وهو ينادي بالميكروفون على الطالبات ليخرجن. ينطق أسماء آبائهن مرتين، فيما لا يحتاج معي إلا لـ (عبد الحميد حسن) واحدة، فلا حاجة له للتكرار، لأنني منذ ذلك اليوم، ولبقية حياتي كطالبة، أخرج من المدرسة متلثمة ومسرعة، بحقيبة ظهر كلصوص البنوك. وصلتُ إلى السيارة ألهث، لذا لم أجب عن أي من أسئلة أبي، وحين وصلت سيارته إلى مرآب البيت، مرّرت كفي بخفة شال يتعرف على عنق، فوق انبعاج جانبي في مقدِّمة السيارة.. لأول مرة أراه أنيقاً إلى ذلك الحد. انتقلت بكفي في لمسة طويلة لم تنقطع على امتداد جدار بيتنا، وصولاً إلى الباب. أتذكر اكتشافي للحقيقة يومها وكأنه الآن.. زخارف باب بيتنا الحديدي لم تكن أهلةً كما كان يبدو لي، بل أفواهاً تبتسم بلطف للعائدين إلى البيت، لذا كنت أول من بادلها الابتسامة، في نهاية أول يوم دراسي لي.
مبارك الهاجري: كان ذلك اليوم بعيداً، ومشوشاً
كان ذلك بعيداً، ومشوشاً، هناك شيءٌ ما يجعل الصورة غير واضحة تماماً، كأنك تنظر إلى الأفق من خلال زجاجة سيارتك الأمامية وقد علقت بها آثار الطريق، الزمن، العمر.
بصحبة خالي، قريني، أقلَّنا جدي، رحمه الله، للذهاب إلى المدرسة، اشترط عليهم وقت التسجيل أن نكون في فصل واحد. خشي علينا أن نشعر بالوحشة، رغم أننا كنا قد درسنا في التمهيدي من قبل؛ لكن الأمر في المدرسة بدا مختلفاً، الاستقلال الذكوري، الاعتماد بعض الشيء على نفسك، الارتكاز على فكرة أنك في طريقك لأن تصبح رجلاً، أسباب تؤكد أن المدرسة في جانبٍ آخر من الرعاية والأمومة التي كنا نحظى بها في التمهيدي.
كنت متوتراً، الشغف بالمعرفة، الفضول، خوض التجربة يوقدني؛ يجعلني أشتعل شوقاً للقاء المدرسة، الخوف من المجهول، إرشادات أمي التي تنتهي بالوعيد، تزامن ذلك مع دندنة: ازرع واحصد أرض بلادك عبر أثير الإذاعة يفرغ شيئاً من تلك الطاقة، ثم يعود بي إلى التوتر ثانيةً.
دخلنا المدرسة، مغص معوي، كأن هواءً بارداً يمسك بيد رخوة أمعاءك فيصعد بها إلى فم معدتك. أحد المدرسين يتحدث عبر مكبر الصوت، لا أدري ما يقول، ربما كان يهدِّد الجميع. عينا خالي الشقيتان تزوغان لغير ذلك. في الحقيقة أنا لا أذكر من دلنا على طابور فصلنا في الساحة، كانت شاسعة أشبه بميدان عسكري.
في آخر الصف بكينا، نشجنا، نتطلع إلى الكتل البشرية المتراصة، تعالت أصواتنا، ربما كان هناك من يربت على أكتافنا، أو يهدئ روع البادئ منا في البكاء ليسكت الآخر. ذكرنا لأحد المعلمين، بأن لنا أخاً أكبر هنا، خالي كان يدرس في الصف الخامس. أتونا به في الفصل حين لم ننقطع عن البكاء. حاول أن يهدئنا، جرب أن يمارس دور الأخ الأكبر، الأب الثاني، حاول أن يصرفنا عن ذلك حين أخذ يعلق على أحد أطفال فصلنا، قزم، خائفٌ هو الآخر؛ لكننا واصلنا البكاء. ووعدنا بأن يأخذنا معه في الفسحة.
القزم فعلها على نفسه. بدا أن هناك منظراً لم يكن جميلاً في الفصل. أحدهم أغلق الباب، طالبٌ لم يكن خائفاً مثلنا، ربما كان معيداً السنة، أو أنه يرى في ذلك مرحاً ما، قفزتُ بسرعةٍ إليه أرجوه أن يفتح الباب. لم يفعل، تعلقت بالباب حتى فتحته وكدتُ أسقط. ربما تشجع خالي وقتها ليضحك، كما كان قد ضحك بعدها بفترةٍ ربما ليست طويلة، حين سألني عريف الفصل عن اسمي، فمكثت هنيهةً مستحضراً تحذيرات أمي من أن أذهب إلى الحمام حتى لو بلغ بي الأمر أن أفعل ما فعله القزم، أو أحادث من يكبرني في المدرسة، أو أوافق أن يوصلني أحد الغرباء بسيارته إلى البيت، فأجبته بأنني قد نسيتُهُ!
**حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية