تحتدم معركة توزيع الخسائر. الحكومة وصندوق النقد الدولي، اللذان يحدّدان الخسائر بنحو 241 تريليون ليرة، في مقابل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وجمعية المصارف اللذين يسعيان لطمس القسم الأكبر من الخسائر. وهناك تمايز ما بين سلامة والمصارف. الحاكم يرفض الإقرار بالخسائر، بينما المصارف ترفض شطبها وترى أنه يمكن تعويض أي خسائر عبر خطّة ذات رؤية اقتصادية. الركن الأساسي في هذه الخطّة التي عرضتها الجمعية أمس على الإعلاميين، يهدف إلى إضفاء "الملائكية" على المصارف بدلاً من شيطنتها. هم ملائكة. السياسيون «شيطنوا المصارف» على ما قال أمين الصندوق في الجمعية تنال الصباح. مهلاً. المصارف ليسوا شياطين! ألم يفرّطوا في أموال المودعين ووظّفوها مع الدولة رغم علمهم بأنها ستنفقها؟ "منذ خمس سنوات لم نوظّف أموالاً لدى الدولة، بل وضعناها لدى مصرف لبنان. في أفضل مكان" بحسب عضو مجلس إدارة الجمعية نديم القصّار. ثم يردف الأمين العام للجمعية مكرم صادر: "الضغوط السياسية على مصرف لبنان هي التي بدّدت الودائع». إذاً، هم عملوا بجهد لتجنّب تبديد الودائع من خلال توظيفها مع الدولة (أي في سندات الخزينة التي تصدرها وزارة المال) لكن ثمّة سياسيين أجبروا مصرف لبنان على تبديدها. هل يعتقدون أيضاً أن مصرف لبنان جزيرة على كوكب آخر وليس جزءاً من سلطة ما بعد الحرب الأهلية؟ تصنيف مصرف لبنان هو تصنيف الدولة نفسها. المشكلة لا تكمن في التصنيف، بل في إساءة استعمال الأموال. يسأل القصار "أين سنضعها؟". ثمة إجابة أبسط من ذلك: لماذا أخذتموها أصلاً إذا كنتم لا تستطيعون توظيفها؟ ألستم مؤتمنين على الوديعة؟
المهم. رواية المصارف عن أسباب الأزمة، كما وردت أمس في اللقاء الذي حضره رئيس جمعية المصارف سليم صفير والصباح وعضو الهيئة وليد روفايل والقصار وصادر، تقع في ثلاثة مكامن: السياسيون، المودعون، اللبنانيون عموماً. أجوبتهم عن الأسئلة التي طرحت دارت حول هذه المسائل الثلاث مراراً وتكراراً؛ نحن ملائكة: الحق على السياسيين. الحق على اللبنانيين. والحق على المودعين. فالسياسيون ضغطوا على مصرف لبنان للحصول على الأموال. و «ليس المودعون وحدهم استفادوا، بل كل اللبنانيين استفادوا من النظام المالي الذين أعطاهم قوّة شرائية» بحسب روفايل.
لهذه الأسباب «السياسيون كانوا مرعوبين أيام انتفاضة 17 تشرين، فأعادوا تحويل الانتفاضة الموجّهة ضدهّم، نحو المصارف» بحسب الصباح. لكن المفارقة أن الصباح استأنس بمقابلة لنائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي "الذي أعتقد أنه يتحدّث باسم الرئيس نبيه بري"، ليشير إلى أن خطّة الحكومة لن تمر في مجلس النواب. عفواً. هل وقعتم في التناقض؟ هل أن بري والفرزلي وسائر النواب ليسوا سياسيين؟ هؤلاء الذين تتهمونهم بتبديد ودائع الناس هم الذي يدافعون عن خطتكم اليوم! غريب.
على أي حال. ما حصل بعد 17 تشرين الأول، برأي المصارف، لا يشكّل دليلاً كافياً لتوجيه الشبهات نحو المصارف. "فالدولة هي التي حصرت استعمال الودائع بلبنان" وفق القصّار. ثم أضاف الصباح: "حاكم مصرف لبنان قالها في مؤتمره الصحافي إن الأموال ستبقى لخدمة الاقتصاد الوطني". حقاً؟ في الواقع، لم يصدر أي تعميم عن حاكم مصرف لبنان لإبقاء هذه الأموال في خدمة الاقتصاد الوطني. أصلاً المصارف لا تحتاج إلى موافقة مصرف لبنان لتحويل الأموال. كل ما تفعله هو تحويلها عبر "سويفت". أصلاً هو تحويل دفتري صرف، لأن الأموال تدفع من حساباتهم في الخارج. ليس في الأمر إبراء لذمّة مصرف لبنان وحاكمه، بل شبهة واضحة حول المصارف وقيامها باستنسابية تحويل الأموال وفرض قيود غير مشروعة على الودائع. فقد كان واضحاً أنه جرت عمليات تحويل أموال إلى الخارج في وقت المنع المزعوم. بعض هذه الأموال مملوك من أصحاب المصارف، وبعضها يعود لكبار المودعين اللبنانيين والأجانب.
هكذا إذاً، اللبنانيون استفاقوا في 17 تشرين الأول على انتفاضة كان يفترض أن تطيح النظام السياسي، لكنها انقلبت ضدّ المصارف. لماذا؟ لأن المصارف ملائكة. هذا التوصيف يفرض حكماً الكشف عن الركن الثاني من خطّة المصارف البديلة. تقول هذه الخطّة إنه يجب على الدولة، لأنها مسؤولة عن خسائر النظام المالي، أن تضع أصولاً من أراض تملكها، وشركتي الخلوي، وطيران الشرق الأوسط، وشركة انترا، وشركة كازينو لبنان، والمرافئ اللبنانية، ومطار ببروت، وسواها، في صندوق. "اخترنا هذه الشركات لأنه يمكن خصخصتها لاحقاً" يقول روفايل. وإيرادات هذا الصندوق ستغطّي الخسائر (ضمانة)، وسيصدر مقابلها سند دين على الحكومة بقيمة 40 مليار دولار بفائدة منخفضة. قسم من إيرادات الصندوق ستستعمل من أجل تغطية خسائر مصرف لبنان التي تشكّل أساس الخسائر، ويتحمّل القطاع المصرفي خسائر التعثّر في إقراض القطاع الخاص، ثم تعيد المصارف رسملة نفسها وتنطلق نحو ممارسة «الملائكية» مجدداً. أين الرؤية الاقتصادية؟ هي هنا في الصندوق. يعمل الصندوق بطريقة واحدة: بدلاً من أن تذهب إيراداته إلى الخزينة، ستذهب لتغطية الخسائر. إنه حلّ مناسب لمن؟ لكل أوليغارشي صغير يريد أن يستولي على ما تبقى من موارد في لبنان. هذا الصندوق سيكون صنيعة المصارف والسياسيين. فكما بدّد الطرفان ودائع الناس، يريدون اليوم الاستيلاء على ما تبقى من الموارد. هذا الأمر يجنّبهم رسملة أنفسهم بالأرباح التي حصّلوها من توظيف الأموال لدى مصرف لبنان والدولة على مدى 25 سنة.
لحظة. عن أي أرباح نتكلم؟ فالأمين العام للجمعية أجرى دراسة تشير إلى أن المصارف لم تراكم الأرباح على مدى 25 سنة ماضية، بل ضخّت أكثر من 70% منها في الرساميل. ومن أجل ماذا؟ من أجلكم أيها اللبنانيون. "لتقوية انتشار المصارف لتصل إلى كل المناطق اللبنانية" يقول صادر… حقاً؟ ألم يراكموا الأرباح؟ رسملوها من أجل اللبنانيين واقتصاد لبنان! هذا الكلام يستوجب تفسيراً واضحاً: رساميل المصارف يملكها المساهمون في المصارف، وأي رساميل جرى ضخّها من الأرباح هي أصول اكتسبها هؤلاء. كثيرون منهم باعوا أسهمهم وحصّلوا أرباحاً تفوق الوصف، وآخرون فضّلوا الرهان على انحياز النظام لهم. بعضهم حاول بيعها وفشل. بعضهم ندم حتماً. بعضهم اشترى عقارات وحوّلها إلى أرقام في ميزانيات المصارف. وبعضهم اشترى مصارف في الخارج. الآن يريدون القول إن الرساميل ليست كالأرباح، أي لم تستعمل. هذه الرساميل هي جزء من الأرباح المموّلة بالمال العام، والتي تحوّلت إلى خسائر مثلها مثل كل الودائع التي تبدّدت.
المصدر: لبنان 24