كتب خالد أبو شقرا في نداء الوطن:
لا تنحصر مخاطر ارتفاع سعر صرف الدولار بارتفاع الأسعار فحسب، إنما بعدم إنخفاضها بعد تراجعه، أقله بالسرعة نفسها التي ترتفع بها. باستثناء المتاجر الكبيرة لم يعد هناك سعر على رفوف السلع في المحلات، ولا حتى على ماسحات “الباركود” الضوئية”, الكثير من التجار يسعرون السلع كل ساعة بساعتها على كرتون “كروزات” الدخان، هذا إذا كانت الأسعار على ارتفاع، ويتركونها كما هي في حالات الإنخفاض.
أحد تجار التجزئة يعتبر أنه “من المستحيل أن يبيع السلع التي اشتراها على سعر صرف 23 ألف ليرة بأقل من هذه القيمة، حتى لو تراجع الدولار. وفي الحالة الراهنة فان انخفاض سعر الصرف إلى حدود 16 الف ليرة أو أقل يعني خسارة 7 آلاف ليرة بكل سلعة”. وبمنطقه فان “سعر البيع يحدده بحسب سعر الصرف عند الشراء بالإضافة الى نسبة الربح. ومع هذا، لا مهرب من الخسارة سواء كان سعر الصرف على ارتفاع أم على انخفاض. ففي الحالة الأولى تشتري له كمية الليرات دولارت أقل، مما يحرمه من تعويض السلع التي باعها، ما يعني تجارياً خسارة رأسماله. أما في الحالة الثانية، وفي حال كان يسعّر بالدولار فيكون مضطراً للبيع بسعر صرف السوق وقبض ليرات أقل من التي دفعها قبل مدة بعدما تحول التعامل إلى نقديCash to cash. ولا حل من وجهة نظره لكي لا يَظلُم أو يُظلَم إلا بـ”الشراء والبيع بالدولار النقدي”.
الأسعار في مهب الانخفاض… لم تتراجع
“لا شك بأن التقلبات بسعر الصرف هي أخطر ما تنتجه الأزمات النقدية خصوصاً على المواطنين وصغار التجار. والدليل، رفض الكثير من المتاجر قبول البضائع المرسلة من الشركات وتجار الجملة بسبب انعدام القدرة على التسعير”، يقول نقيب مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي. أما بالنسبة إلى المستوردين، فان الإنخفاض في سعر الصرف يجب أن ينعكس بشكل سريع انخفاضاً في أسعار البضائع، بشرط أن يكون الإنخفاض في سعر الصرف حقيقياً، وليس مجرد رقم على شاشة. فرأسمال المستورد هو بـ”البضاعة، وليس بالليرات أو الدولارات”، يقول بحصلي، “ولا شيء يمنع من تقاضي بدل السلع المباعة على سعر 16 ألف ليرة، حتى ولو أن الإستيراد كان على سعر 20 أو 23 ألف ليرة، لكن بشرط أن نستطيع شراء الدولار بـ 16 ألف ليرة من السوق”. إلا أن ما يحصل على أرض الواقع هو أن الصرافين لا يؤمّنون مبالغ كبيرة على هذا السعر المعلن، وعند مجابهتهم بسعر التطبيقات يقولون: “اشتروا من التلفون”.
وبحسب بحصلي فان المتاجر الصغيرة التي تشكل نحو 80 في المئة من القطاع التجاري هي من تتحمل وزر تقلبات سعر الصرف، وليس بمقدورها تخفيض الأسعار قبل انتهاء الكمية المشتراة على السعر المرتفع. في حين أن المتاجر الكبيرة التي تشكل نحو 20 في المئة من السوق تخفّض أسعارها فور استلام لائحة الأسعار من التجار.
“نحت السعر”
هذا الإضطراب بسعر صرف الدولار سيستمر طالما “لم تتأمن المبالغ الكفيلة بسد الفجوة النقدية الهائلة، أو يتوفّر حل سياسي شامل في الإقليم”، يقول الخبير في الأسواق المالية د. فادي خلف، و”من الآن لوقتها، سيبقى سعر صرف الدولار محكوماً بالإرتفاع المضطرد وسط تراجعات طفيفة تفرضها قدرة الأسواق على استيعاب الصعود الكبير. فمثله مثل كل المنتجات في الأسواق المالية لا يستطيع الدولار مواصلة ارتفاعه من دون التوقف والتراجع في بعض الأحيان. إلا أن هذا لا يعتبر عنصراً مطمئناً، ذلك لانه لن ينخفض إلّا إلى المستوى المرتفع أو الحد الأقصى الذي كان سائداً قبل فترة وجيزة، ويكون في هذا الوقت يستعد إلى وثبة أكبر”.
وهكذا دواليك لا يكون تراجع الدولار إلا كـ”شد المطاط إلى الخلف، تحضيراً لايصاله إلى مسافة أبعد”. وهذا هو “المسار الذي شاهدناه بالفعل منذ بداية الأزمة عند محطات 10 آلاف ليرة والـ 15 الفاً، وقبلهما الألفين والستة آلاف”، يقول خلف، فـ”في كل مرة كان يتخطى فيه الدولار السعر الأقصى يعود ويتراجع إلى ما كان عليه سابقاً، ليقفز بعد فترة وجيزة إلى مستوى جديد مرتفع أكثر، ويستقر عنده لفترة، بعدما يكون المواطنون قد اعتادوا عليه نفسياً وتأقلمت الأسواق معه”. والمثال الأبرز بحسب خلف هو “ثباته لفترة طويلة عند حاجز 12 ألف ليرة بعد ارتفاعه لفترة قصيرة إلى 15 ألفاً ومن ثم وصوله إلى 23 ألف ليرة في سرعة قياسية. هذه القفزة لم يستوعبها السوق من الناحية التقنية فعاد السعر وارتد إلى 15 ألف ليرة على قاعدة تعرف بعالم الأسواق المالية بـ”نحت السعر”، أي أن الدولار سيتلاعب لفترة بين حدود 15000 ليرة و23000 ليرة قبل أن يصل إلى الرقم الأعلى.
فمع كل صعود مثلاً لرئيس الحكومة المكلف إلى قصر بعبدا ينخفض سعر الصرف، وعند خروجه خائباً يعود ويرتفع مجدداً… وهكذا دواليك يستمر “النحت” بالسياسة والإقتصاد والنقد حتى يصبح سعر 23 ألف ليرة مستوعباً. المرحلة الإستيعابية تتطلب بعض الوقت من الناحية التقنية، إلا أنه بمجرد اعتبار تراجع السعر إلى 15 ألف ليرة انهياراً أو انخفاضاً كبيراً، فهذا يعني اعتياد السوق على هذا السعر المرتفع وتقبل المستهلكين لارتفاعات جديدة في المرحلة اللاحقة.
الخوف والجشع
ما يشهده سوق الصرف اليوم من تراجعات هو النتيجة الطبيعية لعمليات بيع كبيرة جرت قبل أيام عند استبيان الإتجاه التكليفي للرئيس نجيب ميقاتي. من بعدها اعتكف الصرافون عن شراء الدولار بحجة أنه لا توجد كميات كافية من الليرات بحوزتهم، وتحول البيع والشراء إلى المبالغ الصغيرة جداً. اما “المبالغ الكبيرة فبيعت في وقت سابق”، بحسب خلف، وأصبح السوق محكوماً بالخوف واندفاع حاملي الدولار إلى بيعه قبل أن ينخفض أكثر. الأمر الذي يزيد العرض. وبحسب خلف فانه “على غرار بقية المنتجات المالية في البورصة أو الأسواق المالية يتحكم عاملان أساسيان بالعرض والطلب، وهما “الجشع والخوف. فعندما تكون الأسعار على ارتفاع يسيطر الجشع ويمتنع البائعون عن البيع طمعاً بالسعر الأعلى، فيما يبادرون إلى البيع عندما تنخفض الأسعار أملاً بالحصول على أكبر ربح ممكن. ونحن اليوم في مرحلة الخوف، حيث يتهافت المواطنون إلى البيع خوفاً من فقدان دولاراتهم لقيمتها، إلا ما لا يعرفونه ان ما يجري هو الهدوء الذي يسبق العاصفة. فالدولار محكوم بالصعود من الآن ولغاية العام 2023″، من وجهة نظر خلف.
و”على ضوء كيفية التعامل مع الاستحقاقات في نهاية العام 2022 ومطلع العام 2023 من الانتخابات النيابية والرئاسية والحاكمية ومقدار الاستهلاك من احتياطي العملات الاجنبية، سيتحدد عمر الأزمة الإفتراضي. وبحسب دراسة مدة الأزمات في لبنان والمستوى الإنحداري الذي تسير به فان “العام 2023 سيكون العام المفصلي الأصعب”، برأي خلف، و”لن تبدأ بوادر الإنفراج بالظهور قبل العام 2025 بالحد الأدنى و2027 بالحد الأبعد”.
الضريبة الكبيرة التي سيدفعها المواطن بارتفاع وانخفاض الدولار، وتكرار رفعه وتخفيضه مع نهاية كل شهر لشرائه على الرخيص، خصوصاً في ظل وجود المغتربين، لن تحل إلا بـ”التسعير بالدولار” برأي خلف، و”ذلك على غرار ما جرى في الثمانينات. وبهذه الطريقة نحمي المستهلك من التقلبات الحادة، ونحد من تعريضه للخسارة سواء انخفض او ارتفع سعر الصرف”.